رحيل 2019 وبقاء قضاياه لعقود مقبلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

التصدي لجموح الرأسمالية وقضايا الهوية والعنصرية كانت المحرك لأغلب الأحداث العالمية الكبرى في العام 2019. وهي مرشحة، في تقديري، لأن تظل معنا لسنوات بل وربما لعقد كامل على الأقل.

أما جموح الرأسمالية، أو ما صار يعرف «بالاقتصاد النيوليبرالي»، الذي صار يهدد قطاعات واسعة من البشر فضلاً عن البيئة، فجوهره نظرية اقتصادية «تزعم أنها تقوم على أسس علمية»، على حد تعبير جوزيف ستيجلز، الاقتصادي الحاصل على نوبل. فهي تروّج للرأسمالية المطلقة، دون قيود من أي نوع على حركة السوق.

وبالتالي تدعم بقوة التخلص من الآليات الحكومية التي تراقب حركة السوق، وتصحح مساره إذا لزم الأمر، كمنع الاحتكار وحماية الصناعات الوطنية. وهي تدعم الخصخصة المطلقة التي تشمل كافة مناحي الحياة من الشركات والصناعات، للتعليم والصحة، فضلاً عن تخفيض الإنفاق الحكومي على برامج الضمان الاجتماعي وتقليصها.

وقد برزت تلك السياسات في سبعينيات القرن العشرين وتكرست طوال الثمانينيات وصارت الصرعة العالمية في التسعينيات. ثم باتت لاحقاً الوصفة الجاهزة التي يتم الترويج لها باعتبارها التي تحمي الدول النامية من «الطوفان المقبل» لو لم تندمج في الاقتصاد العالمي، عبر تلك السياسات التي وصفت وقتها بأن «لا فرار من اتباعها».

وكل ذلك، رغم تحذيرات الكثيرين من علماء الاقتصاد السياسي من تداعياتها الاجتماعية الخطيرة. وهي التي تفاقمت فعلاً حتى طفح الكيل حول العالم.

والعام 2019 كان تجسيداً لرفض الملايين لتلك السياسات الاقتصادية. ففي تشيلي، التي كانت معمل الاختبار الأول لتلك السياسات في السبعينيات، خرجت مظاهرات عارمة لم تتوقف حتى الآن بعد أن وصلت المعاناة الاجتماعية لذروتها. فكان رفع الحكومة لأسعار تذاكر المترو بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.

وقد تكرر الأمر نفسه من كولومبيا للإكوادور لغيرها من دول أمريكا اللاتينية. وتظاهرات فرنسا، هي الأخرى، تمثل تجسيداً للرفض الشعبي للسياسات التي تطال منظومة الضمان الاجتماعي بما فيها المعاشات. وفي بريطانيا، تظل منظومة الرعاية الصحية من أهم القضايا التي يرفض الناخبون بحسم التلاعب بها أو خصخصتها.

وقد عبّرت موجة التظاهرات التي شهدتها بعض الدول العربية أخيراً عن تنويعة أخرى على رفض الأزمات الاقتصادية القائمة على جوهر سياسات النيوليبرالية. فمن أهم تداعيات الاقتصاد النيوليبرالي التي حذر منها الكثيرون من علماء الاقتصاد الإضرار بالطبقة العاملة بل والمتوسطة عبر تزايد البطالة، جراء الخصخصة والتلاعب بشبكة الضمان الاجتماعي.

فضلاً عن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء. والإضرار بالطبقتين، فضلاً عن الفجوة الهائلة بين الفقراء والأغنياء، أدى لاتساع دوائر غياب الثقة في النخب الحاكمة بأحزابها المختلفة، مما سمح بصعود التيارات الشعبوية والنعرات القومية والعنصرية، وتحميل الأقليات والمهاجرين المسؤولية عن الأزمات الاقتصادية للأغلبية.

لكن تظل النيوليبرالية هي واحدة فقط من أسباب تنامي العنصرية والتيارات الشعبوية التي تدعم إعادة بناء الهوية على أسس استبعادية لا جامعة. فالعالم من حولنا صار يشهد إصراراً على الهوية الاستبعادية وتفشياً للعنصرية. فمن رومانيا والمجر وبولندا مروراً بالهند ووصولاً لبريطانيا والولايات المتحدة، نجد أنفسنا إزاء صور مختلفة من الظاهرة نفسها.

فالولايات المتحدة تشهد صعوداً مخيفاً لتيارات التفوق الأبيض والعنصرية ضد غير البيض، فضلاً عن المهاجرين والأجانب. والبريكسيت في بريطانيا في جوهرها قامت على رفض الحدود الأوروبية المفتوحة، وما تعنيه من تدفق الهجرة.

خصوصاً من دول الجنوب، مما يهدد «الهوية» البريطانية. وفي بولندا والمجر، فإن صعود التيارات الشعبوية المعادية للهجرة والنعرات العنصرية امتداد للظاهرة ذاتها. حتى الهند، ذات التاريخ القائم على الفخر بالتعددية الإثنية والدينية، فقد صارت أكثر اقتراباً من النموذج الذي لا يميز فقط ضد الأقليات الدينية والإثنية وإنما يميل لاستبعاد غير الهندوس من الجنسية الهندية، عبر القانون الذي صدر أخيراً، وتلته مظاهرات لم تتوقف، وشملت أغلب الولايات الهندية.

واللافت أيضاً أن علاقة الدين بالسياسة ليست بعيدة عن كل ذلك. ففي رومانيا، تحدث رئيس الدولة صراحة عن الهوية «المسيحية» لبلاده التي «ينبغي حمايتها» من الهجرة. وفي الهند، كان واضحاً أن قانون الجنسية الجديد يستهدف المسلمين المهاجرين من بنغلاديش وباكستان وأفغانستان بل والمواطنين من غير الهندوس.

ولم يكن أقل دلالة من ذلك كله، أن الإعلام الأمريكي المناهض لليمين الديني الأصولي هو نفسه الذي أفرد صفحاته الأولى لخبر دعوة واحدة من أهم صحف ذلك التيار، لضرورة إزاحة ترامب من منصبه باعتباره دون معاييرها الأخلاقية والدينية. فكانت المفارقة أن ذلك الإعلام على استعداد لقبول دور اليمين الأصولي، طالما يصب في خانة مناهضة ترامب.

والأرجح، في تقديري، أن تظل قضايا العنصرية والهوية والتصدي لجموح الرأسمالية، فضلاً عن دور الدين في السياسة من أهم قضايا العقد المقبل على الأقل.

Ⅶ كاتبة مصرية

 

Email