قضية فلسطين شيء من التفاؤل

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحالة الفلسطينية بكل أبعادها ومقوماتها تعيش راهناً لحظة سيولة، يحار أهل الذكر في استكناه آفاقها في الأجلين المنظور والممتد. مبعث هذه الحيرة واللا أدرية أن كثيراً من معطيات هذه الحالة وثوابتها الأساسية، فلسطينياً وعربياً وإقليمياً وإسرائيلياً ودولياً تتعرض لعمليات كبرى من الهدم والتدوير أو إعادة التشكل.

وفي غمرة مشهد كهذا، حيث لا يملك المتابع الإلمام بتفاصيل الأجندات المخبوءة لدى الأطراف المعنية، تصعب مهمة التشوف والاستطلاع. ندفع بهذا التعميم بناء على التأمل فيما يعتمل في تضاعيف الداخل الفلسطيني من تفاعلات زاعقة وجدال محموم، حول مصير حركة التحرر الوطني، أهدافها ووسائلها ونظامها السياسي بشكل خاص. لكن التأمل ذاته يشي بأن الطرف الفلسطيني لا يتفرد بهذه التفاعلات وما يتصل بها من تحولات في الخريطة الداخلية وتداعياتها الخارجية، فكل الأطراف المنغمسة بدرجات متفاوتة في القضية الفلسطينية، تكاد تعاني من الظاهرة ذاتها.

القصد، أنه ليس صحيحاً أن القوى الفلسطينية هي وحدها التي لا تهتدي إلى، أو تجمع على، ما تريد بشأن المآل المرحلي والنهائي لقضيتها الوطنية، الإسرائيليون يتحاورون ويتدافعون أيضاً حدود ما يأخذون أو يعطون للفلسطينيين، بالسلم والتفاوض أو بالاغتصاب والقوة العارية، وهل يتعين عليهم فعل ذلك عبر حل الدولتين أم خيار الدولة الواحدة، أم استمرار الوضع الراهن مع العمل على تغييب فلسطين بقضمها على مهل.

الأمريكيون لديهم ما يختلفون عليه بهذا الخصوص فرغم اقترابهم، جمهوريون وديمقراطيون، من رؤية الرئيس دونالد ترامب للتسوية الفلسطينية، إلا أن تناظراً يدور في أروقتهم الفكرية والسياسية بشأن الآليات المحققة لها، وما إن كان اعتصار الجانب الفلسطيني يكفي لفرض (صفقة القرن )أو ما تبقى من تفصيلاتها. وبدورها تشهد الأوساط الأوروبية جدلاً ظاهراً وخفياً بصدد الدور الذي يتعين القيام به تجاه المعضلة الفلسطينية.

ويسهل في هذا الإطار استشعار المراوحة بين محاولة الإقدام بمبادرة فاعلة مشفوعة برؤية موحدة لهذا الدور، وبين تقليد الاحجام، الذي اشتهر به الأوروبيون، مع الاكتفاء بزيارات الاستطلاع والاستماع، واستخدام المنح والمنع المالي والاقتصادي وشيء من زخرف القول، لتليين الطرف الفلسطيني وسوقه للانصياع لإملاءات تخالف حقوقه المشروعة.

ويقيناً يقع النظام العربي في دائرة موازية من التيه، فتراكم الهموم والقضايا شديدة التعقيد عليه جماعياً، وعلى معظم وحداته القطرية، حجبت عنه فرصة تمييز القضية الفلسطينية عن غيرها، ومنحها الانشغال الاستثنائي الذي نالته لعقود. وغاية ما يلاحظ بالخصوص، الحديث المكرر عن الالتزام بمبادرة السلام الاستراتيجي مع إسرائيل، المعروضة بلا أصداء حقيقية منذ قمة بيروت»2002). هذا دون الاستطراد للخطاب الذي راح يتلصص على غير استحياء، محاولاً الترويج لمصفوفة أولويات جديدة، لا تضع على رأسها معالجة الخطر الصهيوني وقضية فلسطين.

والحال كذلك، فإن البيئات المحيطة بالقضية الفلسطينية، المؤثرة على مساراتها ومداراتها في الحال والاستقبال، تظهر من التساؤلات بأكثر مما تعطي من إجابات وأي تحليل ينطلق من ضغط هذه اللحظة ستكون نتيجته محكومة بتفكير الأزمة وسوف تميل حتماً إلى التشاؤم.

ما يخفف وطأة هذا الاعتقاد أنها ليست المرة الأولى التي يسود فيها هذا المناخ. لقد حدث شيء من ذلك في مراحل سابقة وفي إطار معطيات مقبضة، ربما كانت أكثر إحكاماً مما يجري في هذه المرحلة، كتلك التي تبلورت فور وقوع النكبة الفلسطينية عامي 1948 و1949، أو التي اجتاحت العقل والسياسة فلسطينياً وعربياً بعد استكمال احتلال بقية فلسطين والإطباق على النظام العربي الظهير لها عام 1967. كذلك ظن البعض بأن القضية الفلسطينية قد طويت أو ذوي الاهتمام بها بُعيد حرب الخليج الثانية، حين تعرضت الانتفاضة الأولى للحصار والضمور وتعرض النظام العربي للزلزلة والانقسام، وذهب ريح المعسكر الاشتراكي الداعم لحركة التحرر الفلسطينية.

في هذه المناسبات ونحوها قيل إن السبل قد سدت على الحقيقة الفلسطينية الواعدة، وأن قضايا أخرى باتت أكثر إلحاحاً على الأجندات العربية والدولية، وأن المشروع الصهيوني وكيانه إسرائيل يسيران بريح مواتية، وأنه لن يمر وقت طويل قبل أن يقبل الفلسطينيون بما يملى عليهم. غير أنه ليس من باب الهوج الدعائي التعبوي أن نتذكر في لحظتنا المكفهرة الراهنة، كيف مرت المناسبات السابقة دون أن تنهار الحركة الوطنية الفلسطينية، وكيف أن فلسطين، عادت بعد كل انتكاسة، لتؤكد حضورها بدينامية ذاتية وموضوعية على أجندات كل المعنيين، العاطفين عليها والمتربصين بها على حد سواء، لكن هذه الصحوة غالباً ما كانت تتم بمخاض عسير وبتضحيات كبيرة، فلسطينياً بشكل جوهري.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email