كيف يتحول المرض لقوة جبارة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

اختيار مجلة التايم الأمريكية للفتاة السويدية جريتا ثونبرج لتكون شخصية العام هذه السنة أعاد تسليط الأضواء عليها وعلى دورها في حشد الملايين في أكثر من 15 دولة من أجل قضية المناخ، التي صارت الفتاة الصغيرة رمزاً لها. إلا أن للفتاة جانباً آخر أكثر قوة وإلهاماً، وهو قدرتها على تحويل مرضها لمصدر قوة.

ثونبرج ليست أول أطفال العالم الذين دافعوا عن مستقبل الأجيال القادمة وحقها في أن ترث كوكباً صالحاً لمعيشة البشر دون كوارث طبيعية غير مسبوقة. لكن ثونبرج الفتاة البيضاء التي تنتمي لأقصى شمال أوروبا، حظيت باهتمام الإعلام الغربي الذي تجاهل غيرها من الأطفال ممن سبقوها من أصحاب البشرات الداكنة حول العالم، أما قدرة ثونبرج على تحويل مرضها لمصدر قوة فهو ما يميزها فعلاً عن غيرها.

ثونبرج كانت في الخامسة عشرة من عمرها حين تركت مدرستها وقبعت وحدها أمام مبنى البرلمان السويدي فيما أسمته وقتها «إضراب عن الدراسة من أجل المناخ» احتجاجاً على عدم استجابة سياسيي بلادها لما حذر منه العلماء مما ستقدم عليه الأرض من كارثة، ما لم تتخذ دول العالم سياسات عاجلة لتخفيض الانبعاثات الحرارية. ثم جابت الفتاة، التي تبلغ اليوم السادسة عشرة، العالم الشمالي بحراً، حتى وصلت لشواطئ نيويورك فاستطاعت خلال رحلتها أن تلهم الملايين من أبناء جيلها وتدفعهم لتبني قضيتها.

لكن رحلة الفتاة الصغيرة مع المرض لا تقل في دلالتها عن رحلتها البحرية. فهي بعد أن قرأت عما ستقدم عليه الأرض من كارثة محققة وعدم اكتراث السياسيين حول العالم، أصيبت، في الحادية عشرة من عمرها، باكتئاب حاد صاحبه الوسواس القهري، فصارت حبيسة المنزل لا تتحدث ولا تأكل إلا قليلاً. لكنها حولت مرضها إلى أهم مصادر قوتها. فقد صار العمل من أجل قضية تؤمن بها علاجاً للاكتئاب، وحولت الوسواس القهري لصديق لها حيث صارت بالغة التركيز على قضيتها الواحدة، لا تحيد عنها ولا تستدرج لغيرها.

وثونبرج مصابة أيضاً بأحد أشكال التوحد الذي يجعلها لا تستجيب للضغوط وللمحفزات الاجتماعية، فحولته لقدرة فذة على عدم الاستجابة لمحاولات الإطراء ولا حتى الهجوم عليها، أو لمحاولات إغوائها بالشهرة والمال. فكانت في سلوكها الشخصي متسقة مع ذاتها. فالفتاة التي تريد حلاً عاجلاً للانبعاثات الحرارية، لا ترتاد الطائرات وتجوب العالم بحراً. وبسبب مرضها، لا تتمتع بكاريزما لكن كلماتها شديدة الصراحة لا تكبحها المجاملات ولا الملاءمات يصاحبها انفعال صادق، مؤثر. فهي مثلاً حين دعيت للشهادة بمجلس النواب الأمريكي لم تكن أقل حدة مع مؤيديها عنها مع مهاجميها من الأعضاء. فهي قالت لداعميها «فضلاً، احتفظوا بثنائكم لأنفسكم. نحن لا نريده.

ولا تدعوننا هنا لتقولوا لنا إننا ألهمناكم ثم لا تفعلون شيئاً». وهي بدلاً من أن تقدم شهادتها قدمت تقريراً علمياً عن كارثة المناخ، وقالت في خطابها المرفق به «لا أريدكم أن تستمعوا لصوتي وإنما لأصوات العلماء». وأسلوبها في التعامل مع مهاجميها، يظل فذاً. فرد فعلها على هجوم رئيس أكبر دولة في العالم يشير إلى أن الهجوم لا يهزها.

فكلما انتقدها ترامب تعيد استخدام كلماته ذاتها لتصف نفسها. فحين سخر منها ترامب عقب خطابها بالأمم المتحدة قائلاً «فتاة سعيدة جداً ترنو لمستقبل باهر وعظيم»، غيرت ثونبرج تعريف نفسها على تويتر مستخدمة العبارة ذاتها، ثم غردت لاحقاً قائلة إنها لا تفهم «لماذا يختار الكبار أن يقضوا وقتهم في السخرية من الأطفال والمراهقين وتهديدهم، حين يروجون للعلم ويدافعون عنه. فبإمكانهم (الكبار)، بدلاً من ذلك، أن يقضوا وقتهم في فعل شئ مفيد.

أعتقد أنهم ببساطة يشعرون أننا نمثل تهديداً مخيفاً بالنسبة لهم». وبعدما اختارتها مجلة التايم الأمريكية شخصية العام 2019، هاجمها ترامب قائلاً «يتحتم عليها أن تسعى للعلاج للسيطرة على غضبها ثم تذهب لمشاهدة فيلم قديم مع أحد الأصدقاء.

اهدئى يا جريتا، اهدئى»، فأعادت «جريتا» فوراً وصف نفسها على تويتر بأنها تلك «التي تهدأ، وتسعى للعلاج للسيطرة على غضبها ثم تذهب لمشاهدة فيلم قديم جيد مع أحد الأصدقاء»! ويبدو أن ترامب كان يسخر من انفعالها الغاضب الذي صاحب كلماتها الصريحة البسيطة، التي تجسد معاناتها قبل إصرارها، في مؤتمر المناخ الذي انعقد مؤخراً.

وأترك القارئ مع بعض عباراتها. فهي قالت لزعماء العالم «لا ينبغي أن أكون هنا، ينبغي أن أكون بالمدرسة. تقولون إننا الأمل. كيف تجرؤون على قول ذلك. فأنتم سرقتم حلمي وطفولتي بسبب كلماتكم الفارغة».

 

ـــ كاتبة مصرية

Email