الإصلاح الاقتصادي ومنطق الأبيض والأسود

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألني بعض الزملاء والأصدقاء منذ أسابيع بشماتة: أنت تكتب طوال الوقت مؤيداً لبرنامج الإصلاح الاقتصادي للحكومة المصرية التي تخلت في الأسابيع الأخيرة عن بعض عناصر هذا الإصلاح، لتهدئة خواطر الناس، فما هو موقفك، وهل ستغير رأيك بعدما ثبت أنه خطأ؟!.

أولاً وفيما يتعلق بصلب الموضوع فلا أعلم حتى الآن أن الحكومة غيرت موقفها من برنامج الإصلاح.

ثانياً وفي التفاصيل، فمن سوء الحظ أن هذا النقاش هو نموذج لمعظم النقاشات في مصر منذ عام 2011، والقاعدة الجوهرية فيه هي الأبيض والأسود فقط، سواء كان النقاش في السياسة أو الاقتصاد أو حتى الرياضة. نحن نتناقش بمنطق جماهير الدرجة الثالثة في مباراة للزمالك والأهلي، لا أحد يرى عيوب نفسه أو فريقه ويريد أن يفوز فريقه في كل مباراة، حتى لو كان مستواه لا يسمح بذلك!.

الحياة ليست أبيض وأسود في معظم حالاتها، وهناك عشرات الألوان بينهما، وفي مثالنا الراهن فالخيار، ليس بين الإصلاح الاقتصادي والجمود، بل كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية، أو العودة لما كان سائداً قبل الإصلاح، أي أن تتحمل الدولة فرق الأسعار، وبالتالي كنا سنصل لمرحلة قد تعلن الدولة إفلاسها فعلياً!.

في كل كتاباتي عن برنامج الإصلاح، قلت إنني مع هذا البرنامج كمبدأ، وكنت ألح على طريقة التطبيق السليم للبرنامج، وبالتالي فالتطبيق الخطأ ليس مسؤوليتي أو مسؤولية من يؤيد البرنامج، بل من يطبقونه. بمعنى أن تعويم الجنيه كان حتمياً، حتى يتم تسعير السلع والخدمات بقيمتها الحقيقية مع ضرورة وجود برامج حماية اجتماعية فاعلة لحماية الفئات الأكثر تضرراً.

أكرر دائماً أن برنامج الإصلاح يتطلب ألا يتم تحميل الفقراء كل أثمانه الباهظة، بل أن يتحمل كل شخص وطبقته الثمن حسب قدرته.

المشكلة أيضاً أن كثيراً من الناس يتوقفون عند تعبيرات نمطية جامدة. المشكلة ليست فقط في صندوق النقد أو البنك الدولي، لأن مؤسسات التمويل الدولية لديها أجندة تعبر عن مصالح كبار المساهمين فيها. أنت كدولة نامية من تختار التعاون معهم أو لا. وأنت من تقبل أو ترفض الاتفاق معهم. إذا رفضت فلن يرغموك كي توقع!، لكن في نفس الوقت عليك أن تبحث عن طريق عملي آخر وليس خيالياً لحل مشاكلك الاقتصادية. وإذا تمكنت من وضع برنامج إصلاح اقتصادي وطني خالص، بدون الحاجة لـ«روشتة» الصندوق وقروضه وشروطه، فأنت بطل عظيم تستحق كل تحية وتقدير!.

برنامج الإصلاح كان حتمياً وليس اختراعاً لهذا النظام، وكانت أي حكومة أو نظام سيفكرون فيه، كما فعل أنور السادات في 17 و18 يناير 1977، وكما فعل حسني مبارك أكثر من مرة، وكما فكر المشير حسين طنطاوي أواخر عام 2011، ومن لا يصدق فليرجع للأرشيف.

القضية الجوهرية ليست الإصلاح فهو حتمي، بل ما أولويات أي نظام، وإلى أي الطبقات ينحاز أكثر، وهل هناك ضرائب عادلة وتصاعدية على الأغنياء أم لا؟!.

وحتى هذا الموضوع المهم لا ينبغي أن نناقشه بمنطق الأبيض والأسود، لأنه في اللحظة التي تفكر في فرض ضرائب مرتفعة جداً على الأغنياء، عليك أن تفكر أيضاً أن هؤلاء الأغنياء، هم الذين سيبنون لك المصانع والمشروعات، التي توفر فرص العمل للفقراء، وإذا ضغطت عليهم أكثر فستكون كمن قتل البقرة التي توفر له اللبن كل صباح!.

وبالتالي فالصيغة الأفضل هي التوفيق بين العديد من المتناقضات، أي أن يكون لديك سياسة اقتصادية مرنة، تدعم تحقيق أكبر قدر من الإنتاج والتنمية، التي تعود على اأبر قدر من الناس بالفائدة، بمعنى أن تشجع الأغنياء على العمل والإنتاج، حتى يوفروا لك فرص العمل، وبالتالي تصل لنقطة التوازن الصحيحة، وفي كل الأحوال لن يرضى عنك الجميع، فلابد أنه سيغضب منك البعض، والمهارة أن يكون هذا البعض أقل القليل بالمجتمع.

سيسأل البعض، وماذا نفعل إذا تصادم برنامج الإصلاح الاقتصادي مع استقرار المجتمع؟!. الإجابة هي استقرار المجتمع أولاً، وبعدها يتم البحث عن الثغرات التي قادت لهذا الوضع، وهل كان السبب جوهر البرنامج أم سوء تشخيص أم سوء تطبيق أم لانتشار الفساد وانعدام الكفاءة؟!.

أسهل شيء في هذا الأمر أن يريح الإنسان نفسه، ويردد شعارات سهلة، ويهتف بطريقة «جمهور الترسو»، معلناً التضامن مع الفقراء فقط، دون أن يغوص في «شيطان التفاصيل». هذه الطريقة مريحة جداً، لكنها ستقود إلى غرق المجتمع بأكمله وأي مجتمع يفكر بنفس الطريقة!.

* رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية

Email