وكلُّ من لا يسوسُ المُلْكَ يخلعُه

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حوادث التاريخ قصص وعبر، ومن لم يستفد من دروس الماضي يخسر الحاضر والمستقبل معاً. وقد شهد هذا القرن وعاش أبناؤه أحداثاً وتحولات كبرى ربما لم تشهدها القرون السابقة، فهل قرأ أهل هذا القرن تجارب وأحوال أهل القرون السابقة، وهل استفادوا منها كي لا يقعوا في الأخطاء التي وقع فيها من كان قبلهم؟

كان سقوط الدولة الأموية في الأندلس، بعد قرابة ثلاثة قرون من تأسيسها، نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة من مراحل حكم المسلمين للأندلس عُرِفت بفترة «ملوك الطوائف». وكان المعتمد بن عبّاد واحداً من أقوى هؤلاء الملوك، إن لم يكن أقواهم على الإطلاق.

حيث يُروى أن أمراء الطوائف الأخرى كانوا يجلبون إليه الهدايا، ويدفعون له الضرائب. وزعم شاعره أبو بكر بن اللبانة أنه امتلك في الأندلس 200 مدينة وحصن، وأنه وُلِد له 173 ولداً.

ورغم هذا فقد كانت حياته سلسلة من الصعود والهبوط تصلح لأن يؤلف عنها مسلسل درامي غاية في التشويق والإثارة، وقد حدث هذا فعلاً. فقد بلغ من النعيم الذي تمرغ فيه أن أغدق الكثير من الأموال لإرضاء رغبات زوجته اعتماد الرميكية، وكانت جارية أُعجب بموهبتها الشعرية وفُتِن بجمالها فاشتراها من مالكها وتزوجها.

ومن أشهر قصص تبذيره لإرضائها يوم أن رأت من نافذة قصرها الجواري يلعبن في الطين وأرادت أن تفعل مثلهن، فأمر المعتمد أن يُسحَق لها الطيب وتغطى به كل ساحة القصر، ثم تصبّ الغرابيل، ويصبّ ماء الورد عليهما، وقد عُجِنَ ذلك حتى أصبح كالطين، فسارت عليه الرميكية مع جواريها.

هذا الترف الذي شهدته دولة بني عباد في الأندلس في عهد المعتمد أدى إلى ضعف استدعى الاستنجاد بدولة «المرابطين» في المغرب خشية السقوط أمام حلف الممالك النصرانية، فجاء يوسف بن تاشفين مع جيشه لنجدة ابن عباد، فكان الانتصار على الفرنجة في معركة «الزلاقة» الشهيرة.

لكن مجيء بن تاشفين إلى الأندلس فتح عينيه على الترف الذي كان يعيش فيه ابن عباد، خاصة عندما استضافه في إشبيلية، وقضى فيها ثلاثة أيام، أُخِذَ خلالها بجمال المدينة، وأغدق عليه المعتمد في المأكل والمشرب والعيش، حتى قال ابن تاشفين: «الذي يَلُوح لي من أمر هذا الرجل أنه مضيِّع لما في يديه من الملك، لأن هذه الأموال التي تُعِينه على هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل، فأخذه بالظُّلم، وأخرجهُ في هذه الترَّهات، وهذا من أفحش الاستهتار».

ثم سأل أصحابه عن رضا معاوني المعتمد عنه، فقيل له إنَّهم غير راضين.

عاد ابن تاشفين إلى مراكش وفي نفسه من الأندلس «الكثير المقعد» كما يقول المراكشي، وقد رغب بها فقال لوجهائه: «كنت أظنُّ أني قد ملكت شيئاً، فلمَّا رأيت تلك البلاد صَغُرَت في عيني مملكتي، فكيف الحالة في تحصيلها؟».

هنا بدأ تخطيط المرابطين للاستيلاء على ممالك الطوائف، فأبحرت جيوشهم إلى الأندلس، ليجد المعتمد بن عباد نفسه يلجأ هذه المرة إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، مستعيناً به على بن تاشفين، الذي تمكن من هزيمتهما، لينتهي الأمر بابن عباد وعائلته أسرى، يتم اقتيادهم إلى المغرب ليستقر المعتمد في سجن أغمات، حيث قضى آخر أيام حياته في ظروف سيئة وحالة مزرية، ويتوفى عن 55 عاماً، تاركاً وراءه قصة خلدتها الكتب وتحدث عنها المؤرخون طويلاً، وقصائد شعر جميلة، كان آخرها تلك التي أنشدها ذات عيد زارته فيه بناته ذليلات يرتدين ثياباً رثة، بعد أن كن يرفلن في أثواب العز والنعمة، وقد ختمها قائلاً:

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً

فـردّك الدهــر منـهياً ومأموراً

من بات بعدك في مُلكٍ يُسرّ به

فإنَّما بات في الأحلام مغروراً

وقبل أن يولد ابن عباد بعقد من الزمان، ارتحل إلى الأندلس شاعر عباسي ضاقت به سبل العيش في بغداد فغادرها مردداً (أستودع الله في بغداد لي قمرا.. بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه).

قصد ابن زريق البغدادي الأندلس، مفارقاً زوجة يحبها وتحبه، عله يجد فيها من لين العيش وسعة الرزق ما يسد رمقه، ويدرأ به ضيق ذات يده. لكن الرياح جرت بما لا يشتهي الشاعر الذي بذل قصارى جهده لتحقيق ما جاء من أجله، فمرض بعد أن مدح الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي بقصيدة بليغة فأعطاه عطاءً قليلاً.

واشتد المرض بابن زريق، ثم قضى نحبه تاركاً قصيدة يتيمة، يعتذر فيها لزوجته الحبيبة لأنه لم يسمع نصيحتها بعدم الرحيل، مؤكداً لها حبه حتى الرمق الأخير، واضعاً في قصيدته من الأحاسيس والحكم والأمثال ما جعلها واحدة من عيون الشعر العربي، ومنها هذا البيت الذي يبدو وكأنه نبوءة لما حدث بعد ذلك للمعتمد بن عباد وغيره من ملوك الطوائف، حيث يقول:

رُزِقـتُ مُـلكـاً فَلَم أَحسِـن سِيـاسَتَـهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُـوسُ المُلكَ يَخلَعُـهُ

قبل أكثر من تسعة قرون قدم لنا المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الطوائف درساً من دروس الحياة. واليوم يعيد التاريخ نفسه عبر شخوص مختلفة وأحداث مشابهة، فهل يأخذ البشر من حوادث التاريخ العبر، أم «يمرون عليها وهم عنها معرضون»؟

 

 

Email