خبراء الحرب غير الاستراتيجيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحد تداعيات أزمة سد النهضة الإثيوبي إن كثيرين في مصر صاروا يفتون في الأمر بغير علم، من دون دراسة أو دراية، أو تقدير للعواقب.

بعض هؤلاء يدعون ويطالبون بأن تشن مصر حرباً فورية ضد إثيوبيا، وتنسف السد من أساسه حتى تنتهي المشكلة، ونعود للاستمتاع بمياه النيل، كما نشاء!

من سوء الحظ أن هذه الفتاوى ليست قاصرة فقط على المواطنين العاديين على وسائل التواصل الاجتماعي «السوشيال ميديا»، غير المطلعين على الحقائق الأساسية للقضية، لكنها انتقلت لكتابات بعض الصحافيين ومن يدعون أنهم خبراء في هذا الملف!

هذه السطور ليست في المفاضلة بين الحرب والسلام، فهذا ليس اختصاصي، بل دور الخبراء الاستراتيجيين الحقيقيين وليس «خبراء بير السلم»! ولا تعني كل المقدمة السابقة أنني أعارض الحرب من أجل حقوقنا المائية. الحرب شيء مكروه جداً، لكنها تكون أحياناً حتمية، حينما تفشل كل الحلول السلمية، فتصبح هي آخر الحلول، دفاعاً عن الحقوق الشرعية، لكن الخلاف فقط يدور حول سؤال: هل من حق كل شخص أن يفتي في موضوع الحرب، وكأنها «عركة أو خناقة في حارة شعبية» بين شخصين أو ربعين!

ما أود أن أقوله إن موضوع الحرب في الحالة الإثيوبية ــ لا قدر الله ــ متشابك ومتداخل مع ملفات وظروف كثيرة. وبالتالي فهو ليس أمراً هيناً حتى يتعامل معه جمع كبير من الناس، وكأنه مباراة في كرة القدم!

في الندوة التثقيفية الأخيرة للقوات المسلحة في 14 أكتوبر الجاري، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن هذه النقطة فقال تلميحاً: «يجب أن نتعامل مع مثل هذه القضايا بأسلوب هادئ وبحكمة، وفي إطار متابعتي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي فقد كانت هناك مبالغة في ردود الأفعال».

هناك فارق كبير بين أن نطالب بامتلاك كل أوراق القوة والضغط بما فيها القوة العسكرية، للحفاظ على حقوقنا المائية، وبين أن نطالب بإعلان الحرب فوراً على إثيوبيا.

النقطة الجوهرية أن إعلان الحرب يفترض أن يكون الورقة النهائية، وبعد التيقن الكامل بأنه تم استنفاد كل الأوراق الأخرى.

حينما تعلن دولة الحرب على أخرى، فإنها تكون قد استهلكت كل أوراقها، ثم أن إعلان الحرب مع إثيوبيا ــ لا قدر الله ــ سيعني أننا وفرنا لهم فرصة اتخاذ أقصى الإجراءات، بل والتحلل من أي اتفاقات ومعاهدات وأعراف ثنائية أو إقليمية أو دولية.

هل يدرك أنصار «الحرب الآن» أن مصر عضو مهم في الاتحاد الأفريقي، بل هي رئيس الاتحاد الأفريقي الحالي، وإثيوبيا هي دولة المقر للاتحاد، وواحدة من أكبر الدول الأفريقية سكاناً مع نيجيريا.

والمعنى الذي سيصل لغالبية الدول الأفريقية في حالة وقوع الحرب هو أنها حرب ضد أفريقيا وليست فقط ضد إثيوبيا، خصوصاً أن هناك اعتقاداً لا يزال موجوداً لدى بعض الأشقاء الأفارقة بأننا نتعالى عليهم وننظر إليهم نظرة دونية، وهو الشعور الذي نحاول محوه الآن، وقد حققنا فيه بعض النتائج الإيجابية.

ثم أن قواعد اللعبة التي كانت سائدة في العقود السابقة، لم تعد كما كانت فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية المجردة، لم يعد مفتوحاً بالصورة التي كانت شائعة قبل عشرين سنة مثلاً. وبالتالي، فأي دولة تريد أن تذهب إلى الحرب، ولا تخسر المجتمع الدولي أو غالبيته، عليها أن تسير في خطوات كثيرة قبل الإقدام على الخطوة الأخيرة.

علينا أن نفهم جيداً أن نهر النيل يربط بين دول حوضه منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، وستظل إثيوبيا هي دولة المنبع الرئيسية لنا، وسنظل نحن دولة المصب، وبالتالي فالأفضل دائماً أن تكون هناك علاقة مودة وتعاون وتنسيق.

هل نلوم فقط من يقومون بالإفتاء بغير علم في أمور سد النهضة وسبل مواجهة المشكلة، أم نلوم بعض المسؤولين أيضاً الذين لا يقومون بدورهم الطبيعي، وهو تبصير الناس والرأي العام بحقائق الأمور الأساسية، حتى لا يستمعوا إلى الإشاعات وتحليلات المقاهي والمصاطب البلدي؟!

هذا هو دور أجهزة الإعلام المختلفة والحكومة والمسؤولين عن هذا الملف. عليهم ألا يتركوا الرأي العام فريسة سهلة للإشاعات والأخبار المضروبة على السوشيال ميديا.

وحينما يحدث ذلك، فسيتوقف غالبية الناس عن وصف أنفسهم بالخبراء الاستراتيجيين، وهي المهنة التي صارت مهنة من لا مهنة له!

Email