أكبر فجوة في التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

الفجوة كبيرة بين التطور الذي يشهده العالم والمشاكل التي تواجهه، فعالم يصل للفضاء وعالم يُدفن تحت الأرض، ومن وجهة نظري هذه هي الفجوة السحيقة التي علينا التركيز عليها في قادم السنوات، فمن يريد أن يصور الحال الذي نعيشه سيجد أبهى صور التطور والحداثة وفي نفس الصورة أبشع صور التخلف والدمار، ولا أقصد هنا التخلف والدمار المادي فقط إنما أيضاً الدمار الفكري، فبالرغم من أن الإنسان تصالح مع النجوم والكواكب الأخرى، وراح يبحث عن مقومات للحياة على المريخ، ويرسل كل يوم آلاف الرسائل لاستكشاف فيما إذا كان يقطن هذا الكوكب أحياء غيرنا إلا أنه لم يلتفت كثيراً نحو شعوب هذه الأرض من المعدومين القابعين في أفقر بقاع الأرض، ويموت الآلاف منهم سنوياً لعدم صلاحية البيئة التي يعيشون فيها للحياة، فكيف نبحث عن الحياة على المريخ وكوكبنا فيه مناطق لا تصلح للعيش!!.

صحيح أن تقنيات الجيل الخامس جعلت الآلات والأجهزة متصلة ببعضها البعض، جعلت الحجارة لها وحدات استشعار تتراسل فيما بينها، جعلت المباني تتعرف وتتعارف فيما بينها، إلا أنها لم تستطع حتى الآن أن تعيد الحياة لبعض القلوب لتمكنها من الإحساس بمن تظلمهم، بمن تبيدهم، بمن تقتل أطفالهم وتستبيح نساءهم وتشرد عواجيزهم، هذه هي إحدى أكبر المفارقات في الحياة التي نعيشها، أناس يحاولون ربط الكون بأكمله ببعضه البعض وأناس يحاولون فصل الرؤوس عن الرقاب في مشهد يلخص لنا ما نحن عاجزون عن تحقيقه منذ آلاف السنين.

علماء يطورون علوم الجينات ويحاولون القضاء على الأمراض حتى قبل أن تصيب الإنسان وأيضاً يحاولون جاهدين لإيجاد أفضل الأدوية للأمراض المستعصية ويحاولون على قدر ما لديهم من علم أن يخففوا الآلام البشرية ليخففوا على المريض تعبه وإحساسه بالألم، وعلماء في التخريب الفكري مازالوا يخربون العقول البشرية ويصيبونها بأخطر أنواع الأمراض؛ أمراض الكراهية والبغضاء، وشتان بين محاولات الاثنين، فالأول يحاول جاهداً أن يخفف عناء الإنسان وتعبه، والثاني يزيد من تعبه بأن يزرع في عقله الكراهية التي تقتل صاحبها قبل أن تقتل غريمه، مهندسون يبدعون في تخطيط المدن وجعل البيئة أكثر استدامة لأجيال المستقبل، مهندسون يخرجون لنا مباني تفوق الخيال بتصاميمها المذهلة من حيث الشكل وتطابقها لأفضل المعايير من التطور والحداثة، وبنفس الوقت هناك على الجهة المقابلة مهندسو الخراب والدمار ممن يمسحون الأرض ويهدمون مبانيها ويدفنون تاريخها وحضارتها من أجل فكرة خاطئة تشكلت في أذهانهم جعلت منهم مجرمي حرب أعداء للإنسانية هادمين للحضارة.

علماء طاقة استفادوا من قوة تفكيك النواة في إنتاج الطاقة وأنتجوا لنا طاقة مهولة ستنعم البشرية بأكملها بفوائدها، وهم ذاتهم من طوروها لتصبح أقوى القنابل وأكثرها فتكاً بالبشرية؛ الفجوة لن تتغير ولن نستطيع السيطرة عليها خصوصاً إن حولنا توظيف الجانب المشرق من التكنولوجيا والتطور العلمي لجانب مظلم، واستغلينا الإمكانيات الموجودة لتطوير أسلحة أشد فتكاً مما هو موجود حالياً.

إن الاستغلال الخاطئ للتطور التكنولوجي سيعيد الإنسان للوراء آلاف السنوات، والتحرك اليوم من أجل إيجاد أخلاقيات تحكم هذا التطور أمر ممكن، ولكن بعد قليل ستصبح هذه الخطوات لا أثر لها كما حدث إبان التسلح النووي، فبعد أن امتلكت الكثير من الدول القنابل النووية جرمنا مثل هذه الممارسات، وما الفائدة إن كان السلاح موجودا فعلاً وباستطاعة أشخاص معينين أن يبيدوا البشرية بأكملها، واليوم وقبل أن تتسع الفجوة أكثر وأكثر علينا أن نخفف منها، وأن نجعل هذا التطور يمضي ليصنع مستقبل البشرية لا أن يكون سبباً في دمارها وخرابها.

أكبر فجوة في التاريخ نعيشها اليوم، والمفارقة الإيجابية أننا نمتلك جميع المقومات التي تساعدنا على التقارب والتعايش البشري، فلدينا قوة الاتصال والتواصل والتي افتقدتها البشرية من قبلنا، وعلينا أن نستغلها لأن تكون سلاحنا لمستقبل أفضل وليس طريقاً لنفقٍ مظلم، والتسامح هو القوة الكبرى التي إن وجدت ستجد معها جميع مقومات الحياة، سنجد معها جميع ما نفتقده لتحول المشهد لأكبر تقارب في التاريخ.

Email