من الفتاوى التي يلوكها بعض المتفيهقين والهواة والمحدثين في عالمي القانون الدولي وحقوق الإنسان والشعوب، أن قيام الدولة الفلسطينية سوف يؤدي تلقائياً وبالتداعي إلى طي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل «طالما أصبحت لهم دولة معترف بها وعضوا في الأمم المتحدة يمكنهم العودة إليها».

قد يكون لدى أصحاب هذا المنحى شروحاً ومسوغات تاريخية وايديولوجية وقانونية، توجب عندهم التحفّظ على اختصار فكرة أو هدف الدولة الفلسطينية في حدود العام 1967 فقط. غير أن تعريض حق العودة الفلسطيني لخطر الشطب لا يندرج ضمن المبررات التي يمكن قبولها في مثل هذا السياق.

فمن ناحية، ليس ثمة قاعدة نظرية تقول إن الحقوق الأساسية للأفراد أو للشعوب تجب بعضها بعضا، وأن تحصيل أو تأمين بعض هذه الحقوق المضمونة بالمواثيق والقرارات ذات الصلة، يبطل بالضرورة أو الاحتمال حقوقاً أخرى. ليس من المعقول مثلاً أن الانتصار للحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كالحياة والتعليم والمأوى والعمل والتنقل والعودة. تخضع للانتقائية بحيث يخيّر المرء بين تحقيق بعضها مقابل إلغاء أو التغاضي عن بعض آخر.

وعلى صعيد جماعي أوسع، لا نتصور أن يكون الاعتراف للشعب الفلسطيني بحقه في تقرير المصير، وبالتداعي حقه في الدولة المستقلة وعضوية الأمم المتحدة، سبيلاً إلى القضاء على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة طبقاً للقرار الشهير رقم 194. وذلك بذريعة أنهم جزء من الشعب الذي صارت له دولة مستقلة، عضوا في الأمم المتحدة. فالدفع بهذه الذريعة لا يعرض فقط حق العودة لخطر التشكيك والإلغاء، وإنما قد يتيح أيضاً لإسرائيل ترحيل الجزء الآخر من أبناء الأرومة العربية الفلسطينية المقيمين تحت سيطرتها منذ 1948، باعتبار أنهم بدورهم ينتمون إلى هذا الشعب! هل يعي أصحابنا هذا الاحتمال الكارثي؟

ومن ناحية أخرى أكثر ارتباطاً بالحالة الفلسطينية، يلاحظ أن قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لعام 1947 الذي تضمن إنشاء دولة للشعب الفلسطيني قد سبق صدور القرار رقم 194 لعام 1948 الضامن لحق العودة الفلسطيني. ومع ذلك لم يتطرق القرار الأخير، لا بالتصريح ولا بالتلميح، إلى أن عودة اللاجئين ستكون إلى الدولة الفلسطينية. لقد كان صناع قرار العودة على دراية بتخصيص شق من فلسطين التاريخية، يستطيع الفلسطينيون إقامة دولتهم عليه، ومع ذلك لم تجل بخواطرهم، ولا ترجموا في قرارهم، فكرة عودة اللاجئين إلى هذه الدولة. والأرجح منطقياً أن النص على حق العودة الفلسطيني جاء متسقاً مع المبدأ الذي يقوم عليه هذا الحق عموماً، وهو العودة إلى الأماكن التي أخرجوا منها كرهاً، بغض النظر عن وجود دولة فلسطينية من عدمه.

يتعزز لدينا هذا الفهم حين نتذكر أن النص الأممي على حق العودة الفلسطيني تكرر لاحقاً لأكثر من مئة مرة، بدون أن يقترن تطبيقه عملياً بقيام دولة فلسطينية. وفي ذلك حجة كافية للاقتناع بأن المكان الوحيد المرشح لعودة اللاجئين هو مساقط رؤوسهم ومراتع حياتهم التي غادروها في سياق حرب 1947/‏1949، وليس أي مكان آخر ولو كان دولة فلسطينية تقام إلى جوار إسرائيل.

علاوة على ذلك، يلاحظ أن واحدة من الدول المئة وثمانية وثلاثين المعترفة بالدولة الفلسطينية راهناً، لم تعلق خطوتها هذه على شرط تخلي الفلسطينيين عن حق العودة. ثم إن قرار قبول عضوية فلسطين بالأمم المتحدة لم يكن مشروطاً بمثل هذا التخلي، إن شرطاً كهذا لا يمكن توقعه ولا افتراض وقوعه لتهافت حجيته وانتفاء منطقيته وصحته القانونية.

ما ينبغي النضال دونه والمجادلة به أن انبعاث فلسطين الدولة المستقلة على أرض الواقع، هو حق للشعب الفلسطيني المعترف له بتقرير المصير، وأن عودة اللاجئين إلى ديارهم هو حق آخر واجب التطبيق والنفاذ. أما كيفية تسوية وضع اللاجئين بعد العودة وبعد قيام الدولة الفلسطينية، فهو شأن آخر يمكن مناقشته في إطار التسوية العامة الشاملة والنهائية للصراع على أرض فلسطين. وهنا يمكن توقع حدوث مساومات وضغوط ومحاولات للفصال أو المقايضة والمفاضلة حول كيفية التطبيق. فالحقائق والمعطيات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وموازين القوى وأنماط التحالفات الإقليمية والدولية، قد يكون لها رأي آخر غير ما تقوله النصوص القانونية.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني