في معنى التقدم.. المركب الاقتصادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

مفهوم «التقدم» مُرَكب من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ينتقل فيها المجتمع من حال إلى آخر يكون فيه الناس أكثر اقتراباً من العصر، وربما أكثر سعادة، أو أقل شقاءً.

ولعل جزءاً مهماً من «التقدم» الإنساني بصفة عامة أن وسائل القياس تقدمت، وزاد إحكامها في إلقاء الضوء على الحالة الإنسانية، ولا يكاد يوجد مجال من المجالات المشار إليها إلا وجرى ترتيبه وتصنيفه والنظر فيما تطور من مكوناته، وإدخال ذلك كله في مجمع يضع أصابعه على ما هو موجود من تقدم أو هو مفقود في تراجع.

المؤشرات في هذا المجال كثيرة من أول «التنمية البشرية» وحتى «التنافسية» عبر «ممارسة الأعمال» و«الحرية الفردية»، حتى أنه بات ممكناً للغالبية من المجتمعات البشرية أن تتعرف على حالتها، ما لديها من موارد وقدرات لكي تستغلها، وما يصيبها من قصور فتتجنبه.

آخر هذه المؤشرات برز فجأة في القاهرة عندما تناولت صحف الصباح جميعها ما نشره «مركز هارفارد للتنمية الدولية» الذي جاء فيه أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد المصري حتى عام ٢٠٢٧ بمتوسط سنوي قدره ٦.٨٪ ما يضعه في حزمة مجموعة الدول سريعة النمو والتي يزيد نموها على ٦٪ وتضم أيضاً ميانمار وأوغندا والصين وفيتنام.

ما يهمنا هنا هو أن المركز يدرس العلاقة ما بين النمو الاقتصادي وما يسميه «المركب الاقتصادي أو Economic Complexity» الذي يعنى بمدى التنوع القائم في الاقتصاد، وفي الحالة المصرية فإن التقرير عن هذا المركب كان أن مصر تقدمت مرتبتين بفعل الزيادة في تنوع صادراتها التي تعبر عن التنوع في الاقتصاد ككل.

هذا الأمر له الكثير من الجوانب الفنية التي يعرفها المتخصصون في العلم الاقتصادي؛ ولكن المهم في الموضوع أنه يعيدنا إلى الأهمية القصوى لتقسيم العمل في المجتمع التي وجدها «كارل ماركس» واحدة من محركات الرأسمالية، وما يتبعها من تقسيمات كثيرة بعضها إنتاجي واقتصادي والآخر اجتماعي وسياسي.

القاعدة العامة في المقياس هي أنه كلما يمسك بالتنوع وإحكام القدرات الإنتاجية الواردة في صادرات كل دولة فإن اقتصادها يكون متحركاً في اتجاه التقدم.

وكلما يكون التنوع أكثر تركيباً في القطاعات الإنتاجية المركبة المختلفة هي الأخرى مثل الحال في الصين وفيتنام فإنه سيشهد نمواً سريعاً. والثابت، كما يقول التقرير، أن الصين والهند كانا معاً قاطرة النمو السريع بين دول مجموعة العشرين خلال السنوات العشر الماضية؛ ولكن الأرقام تشير إلى أن البلدين سوف يفترقان خلال السنوات العشر المقبلة، حيث تنمو الهند بمعدل ٥.٥٪ والصين ٦.١٪.

صحيح أن كلاهما سوف يظل ضمن طائفة الدول سريعة النمو، إلا أن هناك فارقاً في التنوع والتركيب بينهما، فالصين استمرت في تنويع صادراتها، أما الهند فإنها استنزفت قوة الدفع التي حصلت عليها من تنوع في الإصلاحات الاقتصادية التي قامت بها في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ولكن ما تقدم لا يعفي المستقبل من إمكانية تراجع الصين أيضاً بسبب الحرب الاقتصادية بينها والولايات المتحدة الأمريكية التي يمكن أن تقود إلى تباطؤ الصادرات الصينية، ومن ثم قدرة الصين على التنوع والتركيب.

التقرير يمضي إلى تنبؤ مثير حين يقرر أنه إذا كانت شرق آسيا قادت عملية النمو في العالم خلال العقود الماضية، فإن أفريقيا وبلداناً مثل أوغندا وتنزانيا وكينيا وإثيوبيا يمكنها أن تكون خلال العقود المقبلة قطباً جديداً في النمو العالمي. ولكن حتى يحدث ذلك فإن على هذه الدول أن تقوم بعملية التحويل الهيكلية من الزراعة إلى الصناعة.

فالواقع الآن هو أن قسماً غير قليل من النمو في شرق أفريقيا يعتمد على الزيادة السريعة في السكان؛ بينما هذا المشهد في بلد مثل فيتنام فإنه يعتمد على عائدات القطاعات الإلكترونية. شعار المرحلة الاقتصادية المقبلة هو التنوع والتركيب في القطاعات الاقتصادية المختلفة.

Email