الاقتصاد والمعادلة الصعبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تذكرت مسرحية «اوديب ملكاً» وكيف خاف «لايوس» من نبوءة أنه سينجب ولداً سوف يقتل أباه ويتزوج من أمه، ورغم خوف «لايوس» وأخذ جميع الاحتياطات لكيلا تتحقق النبوءة إلا أن الظروف شاءت أن تتحقق، وفعلاً جاء «اوديب» فقتل أباه وتزوج من أمه، تحليلات الاقتصاديين للوضع الراهن منقوصة في العديد من الجوانب، فهم يرون الحال والمآل من وجهة نظر اقتصادية، من وجهة نظر حجم السيولة والكساد والبطالة وتضخم الديون، ولكن هناك أمور ذات علاقة تؤثر بشكل مباشر على حالة الاقتصاد المستقبلية أهمها التوجهات السياسية العالمية، وأيضاً حجم الديمقراطية التي تتمتع بها الشعوب، ومن الذي يتحكم بهذا العالم هل القوى السياسية أم الاقتصادية؟! هنا تكمن الإشكالية الحقيقية.

السياسيون من شدة تدخلهم بالاقتصاد وتحويل العمل السياسي لعمل اقتصادي أفقدوا أنفسهم النفوذ، فقد تفوقت عليهم التجارة والرأسمالية وحرمتهم من سلطاتهم، فلم يعد بالإمكان اتخاذ أي قرار سياسي فيه مصلحة الشعب دون تدخل أصحاب المصالح.يعرض الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو في روايته «البؤساء» مشهداً فظيعاً يصف فيه الرأسمالية عندما تقوم شخصية «فانتين» ببيع أسنانها لتطعم ابنتها، وهذا الأمر واقعي رغم بشاعة الصورة، فالنظام الرأسمالي قد وضع حياتنا بأكملها في أيدي التجار وأصحاب رؤوس الأموال، وأفرغ الحلقة من دور الحكومات في حماية شعوبها؛ إذن هل الحل في دمج النظام الاقتصادي والسياسي لكي يعملان معاً؟!؛ لقد جرب كارل ماركس هذا الأمر ولكن فشل في ذلك، فقد عمد ماركس على تمكين الطبقة العاملة كردة فعل على الرأسمالية، وذهبت الماركسية إلى مزبلة التاريخ وفشلت فشلاً ذريعاً إذ لم تستطع تمكين العمال، فهذا أمر مستحيل، فالتطور يقوده أصحاب العقول لا أصحاب الأيادي.

لو كان ماركس موجوداً بيننا اليوم لاقتنع أن التغيير والتطور تقوده العقول لا أصحاب الأيادي، فقد تم الاستغناء عن الطبقات العاملة الكادحة بالآلات والأنظمة المتطورة، فأغلب الأعمال التي كانت تقوم بها الطبقة العاملة أصبحت اليوم مؤتمتة أو يقوم بها خطوط الإنتاج والروبوتات المصنعة، مما يعني أننا بعالم جديد يتطلب مواكبة التغيرات التي حدثت في طبقاته. الإصلاحات الاقتصادية لا يمكن أن تحدث دون إصلاحات سياسية، ولكن ما الحل إن كان الاقتصاد وعالمه وأرقامه أصبح بيد أشخاص أو شركات بعينها هي من تتحكم بالأمور كافة، فالنظام الرأسمالي نظام قائم على حرية التملك، ولأصحاب الأموال الحرية في التصرف بأموالهم، ولهم الحرية متى يضعونها في السوق ومتى يضعونها في جيوبهم، ومتى ما وضعوها في جيوبهم تبدأ معاناة الطبقات العاملة، وتبدأ معها مرحلة السيطرة على التوجه السياسي.

في عام 1944 في مؤتمر «بريتون وودز» عرض «جون مينارد كينز» حلاً لأزمة الكساد الكبرى (أكبر أزمة اقتصادية عرفتها البشرية)، الحل عُرف فيما بعد بنظرية الاقتصاد الكلي الكينزي أو نظرية الكينزي الاقتصادية والقائمة في وجوب تدخل الحكومات في الاستثمار وضخ أموالها لتحريك عجلة الاقتصاد، وهذا سيقرب المسافة بين السياسة والاقتصاد، ولكن حينها لم تكن التكنولوجيا باستطاعتها توحيد الجهود العالمية، إلا أن اليوم الفرصة أمامنا لإيجاد نظام اقتصادي قائم على التشاركية، في أن تقوم مؤسسات النقد العالمية بتبني فكرة إنشاء عملة رقمية تكون هي الميزان الذي تقاس على أساسه العملات الأخرى بدلاً من حالة تذبذب العملات وصراع الجبابرة في عوالم البورصة وألاعيب السياسة، وتقوم جميع دول العالم بالاستثمار في هذا الكيان أو هذه العملة، وبهذا نحافظ على استقرار المناخ الاقتصادي، ونحافظ على الديمقراطية، ونحرر الشعوب والتجارة في وقت واحد، ولنا الخيار في أن نرتقي ببشريتنا أو ننسفها ونطحنها.

«لايوس» أخطأ عندما جاءه ولد سلمه لحارسه لكي يقتله خوفاً من أن يقتله ولده بدلاً من أن يقوم هو بمواجهة الأمر، ونأمل ألا نخطئ نحن ونترك مصيرنا يتحكم فيه نفوذ ومصالح، بل علينا مواجهة مصيرنا وعلى حكوماتنا أن تسعى لإيجاد نظام اقتصادي قائم على التشاركية بين جميع مراكز القوة في الدولة وسلطتها السياسية ورؤوس الأموال، وليحكم بينهم تقنيات تكنولوجية تدار لمصلحة الشعوب لا مصالح أحد على حساب أحد.

* كاتب وإعلامي

Email