لرمضان رائحة الأمهات

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مائدة إفطار أول يوم في رمضان نعود أطفالاً كما كنا، نلعب في الحارة قبل ساعة من أذان المغرب. نشم رائحة طبخ الأمهات، كل منا يميّزه عن غيره. لا أحد ينسى رائحة ومذاق طبخ أمه. مهما أكلنا من طعام في أفخم المطاعم ومن أيدي غيرهن يبقى هو الأصل وهو المقياس وهو الألذ.

في اليوم الأول نرى حول المائدة أرواح أمهاتنا وآبائنا وإخواننا وأخواتنا الذين توفاهم الله. الأم التي كانت تبدأ بعد صلاة العصر بإعداد طبخة الإفطار لكأنها تعد وجبة ملوكية لرعاياها المحبين. تلف شعرها بقطعة قماش بيضاء كقلبها، تنقع الرز بماء الحنفية، تقطع الدجاج، عدة قطع على عدد أفراد العائلة، تتبلها بالبهارات والملح والقليل من الفلفل الأسود، تتركها تغلي على نار هادئة حتى تنضج على مهلها.

كان إحضار الأكل من المطاعم الدارج اليوم، عيباً. والفاست فود خطيئة لا ترتكبها أمهات زمان. على شوربة الدجاج المسبكة، تطبخ الملوخية التي تكون قد قطفت أوراقها من عيدانها وغسلتها وجففتها وفرمتها بيديها من دون الاستعانة بالمفرمة اليدوية أو لاحقاً الكهربائية. أو تصف في قاع الطنجرة الألمنيوم بعضاً من قطع الدجاج ثم بعض الرز، ثم قطع الباذنجان المقلي، ثم أخيراً الرز وتصب على الكل الشوربة. وتترك الطنجرة على نار خفيفة حتى تفوح رائحة طبخة «المقلوبة» في الحارة.

لماذا سموها مقلوبة؟ ربما لأن الأمهات كن يقلبن الطنجرة بعناية في صينية كبيرة فتخرج متماسكة، كل واحد من مكوناتها في مكانه غير مختلط بالآخر، كما لو كانت كعكة عيد ميلاد.

الأب الذي كان من العيب أن يطبخ كان «يتشاطر» في عمل السلطة. وبعصبية الصائم قبل الإفطار يصيح «هاتوا البندورة، هاتوا النعنع والفلفل والفجل وراس بصل، وعرقين بقلة وأشياء خضراء أخرى». يفرمها كلها فرماً ناعماً، يضيف إليها قليلاً من الماء وكثيراً من زيت الزيتون. وطبعاً، كان يعتبر ما أعده إنجازاً يفوق ما أنجزته الأم.

مائدة الإفطار على الحصيرة الموشاة بألوان القناعة أو على «طبلية» ترتفع سنتيمترات عن الأرض تمتلئ بالطبخات الحارة لكأنها مائدة موحدة. قبل الإفطار كانت الأم تملأ صحن الألمنيوم أو الفخار وتنادي «خذ يا ولد هذا للجيران» والجيران يرسلون من طبختهم للجيران. الجار كان أخاً للجار يشعر بوجعه ويفرح لفرحه ويعرف ماذا طبخ لإفطار رمضان.

حلوى رمضان كانت القطايف بالجوز بلا منازع، لم تكن الجبنة تكفي إلا للسحور، والقشطة لم تكن في قاموس الناس. الآباء يتقنون عمل القطايف أكثر من الأمهات، هكذا كانوا يفتخرون ليثبتوا أنهم القوامون على النساء، كما الحال مع عمل السَلَطة التي كانت من حشائش الأرض، والبندورة تلك المدللة التي كان سعرها يرتفع في رمضان.

في أول أيام هذا الرمضان غاب الأب والأم وتفرق الأخوة والأخوات وحضر الأبناء والأحفاد. لم يعد للطعام نكهة زمان. حلت العصائر المعلبة محل العرقسوس الذي كان يجهز في البيت، ومحل الخروب الذي كان ينقع في الليل ثم يمرس في النهار ويغلى على النار، ثم يترك ليبرد مع قطع من الثلج، ويقدم على الإفطار باعتباره الأخ الأصغر للعرقسوس، ملك المشروبات الرمضانية.

كان رمضان كريماً بالفعل وليس كما الآن بالقول وبرسائل «الواتساب» والبطاقات المعدّة سلفاً. لكأنها فرح مصنّع، جاهز للاستخدام بكبسة زر لا بنبضة قلب.

ليس رمضان وطقوسه وحده الذي تغير، كل شيء تغير. مدفع الإفطار الذي كان يوضع بمنطقة مرتفعة مطلة على المدينة أو المخيم أو القرية، وكنا صغاراً نهلل ونصفق حين يعلن موعد الإفطار، صار مدافع يقتل بها الأخ أخاه ومدافن للأشقاء على مساحة الوطن المصلوب بين المحيط والخليج.

في هذا الرمضان ثمة من يفطرون على صوت قذائف الاحتلال في غزة. إفطارهم حزن مُر وشرابهم دموع أمهات. أشلاء أبنائهم فطور وعشاء للمحتل ودمهم شراب لقتلة الأطفال والأبرياء والأنبياء!.

* كاتب أردني

Email