الذين يحبون أن تشيع الفوضى

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما إن أطلق معالي الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، تغريدته التي يقول فيها: «إن من حق الدول العربية أن تدعم انتقالاً منظماً ومستقراً في السودان. وإن هذا الموقف يتضح لكل من يوازن بعناية بين التطلعات الشعبية والاستقرار المؤسسي.

لقد واجهنا فوضى شاملة في المنطقة ولا نحتاج إلى المزيد منها»، حتى علت أصوات أولئك الذين تستخدمهم بعض الأنظمة والدول لمهاجمة دولة الإمارات، فأمطرونا بتغريدات تكاد تكون مستنسخة من بعضها، تهاجم دولة الإمارات، وتشكك في نواياها وأهدافها من مساعدة الشعب السوداني، والشعوب العربية عامة، وتتهمها بمحاولة اختطاف الثورات من أجل مصالحها، كأن الإمارات دولة استعمارية عدوة، تسعى إلى فرض سيطرتها على هذه الدول والشعوب، وهذا أبعد ما يكون عن سياسة دولة الإمارات المعروفة وعن تفكير قادتها.

ورغم أن تغريدة معالي الدكتور أنور قرقاش كانت باللغة الإنجليزية، الأمر الذي يعني أن المقصود منها هو إيصال رسالة إلى جهات معينة، إلا أن كل الردود تقريباً جاءت باللغة العربية، الأمر الذي يعني أن ثمة فئة ما تريد تحويل التغريدة عن مسارها، وزرع فتنة بين شعب دولة الإمارات والشعب السوداني الشقيق، الذي تربطنا به علاقات أخوّة ومحبة عميقة لا يرقى إليهما شك أو ريبة.

وعلى المنوال الذي غزل عليه هؤلاء المغردون تغريداتهم، غزلت قنوات الفتنة الفضائية هي أيضا أخبارها وتقاريرها وتحليلاتها، وراحت تبحث عن تصريح غريب لحزب صغير يبحث لنفسه عن دور، أو لافتة تسيء إلى دول التحالف العربي التي تقف مع السودان وشعبه كي لا تنزلق ثورته إلى ما انزلقت إليه ثورات أخرى في دول عربية شقيقة، وعملت هذه القنوات على إذكاء نيران الفتنة التي أطلقت شرارتها منذ اندلاع ثورات «الجحيم العربي» الذي حاولت تسويقه على شكل ربيع خادع، أنبت أشواكاً سوّقتها هي ومن يقف وراءها للشعوب العربية على أنها ورود وأزاهير، وعندما انكشف دورها.

وانصرف الجميع عنها أخذت تحاول تسويق بضائع أخرى مغشوشة، كأن ذاكرة الشعوب مثقوبة لا تحفظ ولا تعي، وكأنهم هم الأوصياء على الشعوب العربية، يختارون لها أوقات منامها وصحوتها، ويوزعون على مواطنيها صكوك الوطنية والخيانة، غير مدركين أن لعبتهم قد انكشفت، وأن أدوارهم قد انتهت، وأن الشعوب أدركت ووعت، ولم يعد هناك من يقدر على فرض وصايته عليها.

لعل من حسنات ثورات الجحيم العربي، إن كان لها حسنات، أنها أعطت دروساً للشعوب التي لم تنجرف وقتها في تيار هذا الجحيم الذي أشاع الفوضى في المنطقة العربية.

وأبرز مثال على ذلك الشعبان الجزائري والسوداني اللذان كان تحركهما حكيماً وسلمياً ومدروساً، جاء بالشكل الذي لا يشيع الفوضى في بلديهما، ولا يدمر ما هو قائم على أرضها، ولا يؤدي إلى سفك دماء أهلها، محققاً في الوقت نفسه إرادات شعوبها.

وإذا كانت بعض الدول ذات الأجندات المعروفة قد حاولت استغلال هذه الثورات وفشلت في ذلك، أو كان بعض ناشطي ورموز جماعة «الإخوان المسلمون» المعروفين للجميع قد حاولوا الدخول على الخط بعد تحرك هذه الشعوب، ولم يجدوا سوى الصد والطرد والخذلان، أو كانت قنوات الفتنة الفضائية قد حاولت ليّ أعناق الحقائق، وتوجيه مشاهديها نحو زوايا ضيقة ومظلمة لا تعبر عن المشهد الذي شاهدناه جميعاً في ساحات الاعتصام، أو كان بعض ذيول النظام المطرودين من بعض الدول الخليجية قد حاولوا رفع أصواتهم على منابر المساجد مهددين بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ إذا كان هؤلاء كلهم قد فشلوا في اختراق ثورات هذه الشعوب، ولم يستطيعوا قلب الحقائق، أو المحافظة على بعض جذور جماعتهم بعد قطع شجرتها.

فإن هذا لا يعني أن ثورة الشعب السوداني الشريفة أصبحت في مأمن من محاولة هذه الأطراف الظاهرة والخفية التسلل إليها واستثمارها لصالحها، مثلما فعلت جماعة «الإخوان المسلمون» في مصر، ومثلما تفعل الآن في سوريا وليبيا قوى إقليمية، ودول كبرى، وجماعات وتنظيمات وميليشيات مسلحة، يتم إدخالها من قبل بعض الدول لتعبث بأمن هاتين الدولتين واستقرارهما.

لهذا كله تجيء تغريدة معالي الدكتور أنور قرقاش منبهة إلى أن خطر الفوضى ما زال قائماً في المنطقة، وأن الحاجة إلى انتقال منظم ومستقر في السودان وغيرها من الدول التي تحاول شعوبها إصلاح ما فسد من أنظمتها قائمة وضرورية، فما شاهدناه على مدى السنوات الثماني الماضية درس يجب أن تتعلم منه الأنظمة والشعوب على حد سواء، والذين يعتقدون أنهم فوق مستوى التعلم من دروس الماضي مغرورون، والغرور في مثل هذه المواقف لا يؤدي إلا إلى الانحراف عن الطريق السويّ، والانزلاق إلى الفوضى التي نحن لسنا بحاجة إلى المزيد منها، مثلما جاء في تغريدة معالي الدكتور أنور قرقاش.

لقد كان لافتاً في معظم الردود التي أتت على تغريدة الدكتور أن هناك نبرة عالية من التعالي والاعتداد بالتاريخ والماضي العريق للسودان الشقيق، وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد، فالسودان بلد عريق ذو حضارة ممتدة وضاربة في عمق التاريخ، حتى أن قدماء المصريين أطلقوا عليه اسم «أرض الأرواح» أو «أرض الله» عندما بهرتهم حضارته وخيراته.

لكن هذا لا يعني أن نبقى أسرى للماضي، فالأمم والشعوب التي بقيت أسرى للماضي خسرت الحاضر والمستقبل، أما أولئك الذين يحبون أن تشيع الفوضى في المنطقة فأوراقهم مكشوفة للجميع، ومآلهم إلى الخزي والخذلان والفشل الذريع.

 

 

Email