جدتنا الشجرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن مللت الحديث مع الناس فتحدث مع شجرة، وإن أزعجك نفاقهم ونرجسيتهم فلا تستمع إليهم، واستمع إلى عصفور يغني طرباً لأنه استيقظ حياً، أفطر حبات قمح سقطت سهواً من يد بشر.

في كل سنة أحيي ذكرى السروة التي قتلتها عاصفة متوحشة، أقمت حول موقعها بيتاً من خشب، جعلت من عظامها باباً للبيت يده من قنب، وبجانب الباب زرعت جورية تسلقت إلى كتف الباب. هذه السنة أزهرت، تفتحت وتمددت من الكتف إلى الكتف، لكأنها بورداتها الحمراء إكليل عطر يرحب بالداخل للبيت وبالخارج منه.

الشجرة ثمر وعطر وظل وورق وحطب وبيت، هي المصدر الأول للأكسجين على الأرض، فلولاها لما كان للإنسان القدرة على العيش، مصدر صناعة الأوراق ومسكن العديد من المخلوقات في جذورها، أو في جوفها، أو على أغصانها، تلطِّف الجو وتوفر ظلاً كافياً لخشونة الطقس وتقليل الحرارة.

الشجرة مصدر جمالي مريح للأعصاب، تقلل من التلوث الضوضائي والبيئي، ومكان ملائم للمرضى، وتحافظ على اتزان الكرة الأرضية من حيث المناخ والغذاء، تقلل من تأثير الأعاصير والرياح الشديدة عمَّن حولها وتمنع تشكُّل الصقيع تحتها لأنّها تقوم بإخراج طاقة أقل في الليل فتقل درجة الحرارة تحتها. والأشجار مصدر لإنتاج الثمار والبذور والأعلاف للحيوانات والماشية.

عرف الإنسان أقدمها التي لم تزل حية حتى يومنا وهي شجرة ميثوسيلاه التي يبلغ عمرها نحو 4847 سنة، توجد في الجبال الشاهقة في الجنوب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في ولايتي يوتاه ونيفادا في شرق كاليفورنيا.

تتميّز بلون جذعها الأصفر المائل إلى البرتقالي، والجزء الأسفل منها رفيع، أما أوراقها فهي مدببة الشكل يبلغ طولها 2.5 - 4 سم، لونها أخضر، وتتميّز هذه الشجرة بأنّ أوراقها تبقى خضراء لأكثر من 45 سنة.

أما جدتنا الزيتونة فقد وجد المهتمون أنه من الصعب تحديد مكان وزمان بداية زراعتها، لكنه من المسلم به أن تاريخ زراعة الزيتون مرتبط بتاريخ حوض البحر المتوسط، وأنه يشكل جزءاً مهماً من حضارة وثقافة شعوب هذه المنطقة. وحظيت شجرة الزيتون بتقدير خاص من الديانات السماوية والحضارات الإنسانية كما خلّدها الشعراء والفنانون في أعمالهم.

تعد الشواطئ المتوسطية لبلاد الشام موطناً أصلياً ومهداً لنشأة شجرة الزيتون ومنها انتشرت إلى بقية بلدان العالم. من المؤكد أنها وجدت منذ العصر الحجري أي قبل أكثر من 12 ألف عام، وأصبح جلياً كذلك أنه في الألف الثالث قبل الميلاد كانت في كل من سوريا وفلسطين والأردن مزارع زيتون مستثمرة، كما اكتشفت أغصان وبذور زيتون في آثار إيبلا في إدلب تعود لأكثر من 2500 عام قبل الميلاد، كما وجدت في قبور الفراعنة بمصر وتعود لأكثر من 1500 عام قبل الميلاد، وهنالك دلائل أكيدة أيضاً على وجودها في تلك الفترة في الواحات الليبية وعلى ضفاف بحر إيجة في تركيا واليونان.

أما النخلة فلها تاريخ طويل، ويقول العالـم الإيطالـي أوداردو بكـاري إن موطن النخيل الأصلي هو الخليج العربي، ولا ينتعش نموه إلا في المناطق شبه الاستوائية حيث تندر الأمطار، وتتطلب جذوره وفرة الرطوبة، ويقاوم الملوحة إلى حد كبير، وتتوافر مثل هذه البيئة في غربي الهند وعلى سواحل الخليج العربي، وقد زرعت في دجلة والفرات بالعراق منذ أكثر من أربعة آلاف سنة.

في العام 2011 أطلقت الهيئة الوطنية الفرنسية التي تُعنى بالغابات مبادرة تتمثل في انتخاب ملكة جمال الأشجار، وتهدف إلى توعية الناس بأهمية التشجير بالنسبة إلى البيئة والتنوع الحيوي، وإلى ترسيخ فكرة أن الشجرة جزء من حياتهم وذاكرتهم وتاريخهم.

أما المقاييس التي اعتمدت لانتخاب ملكة جمال الأشجار الفرنسية كل عام، فهي عديدة، من بينها مواصفات الشجرة، والمكان الذي توجد فيه، وخصوصياتها، ودورها في البيئة التي نمت فيها، وعلاقتها بالتاريخ المحلي والوطني.

الشجرة ثالث أول الخلق، آدم وحواء، لازمت الإنسان منذ وجد على الأرض. ولا تخلو الكتب السماوية المقدسة من ذكر عدة أنواع من الشجر.

يكفي النخلة أنها هي التي أوصى الله سيدتنا مريم بأن «وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً». ويكفي وصف الخالق للشجرة أنها «شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار».

كاتب أردني

Email