عبّارة الموت نموذج لمأساة العراق

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تقتصر تداعيات الفساد المتفشي بأوصال الدولة العراقية على ضياع المال العام ولا على تراجع الفرص أمامها للنهوض من كبواتها ولا على تعاظم ما يعصف بأمنها من مخاطر ولا على ما يلحق بسيادتها من انتقاص ولا على الكثير مما يتعلق بتردي مستوى حياة الفرد في أرجائها بل تجاوز ذلك إلى اقتناص حياة أناسها أفراداً وجماعات ممن هم ليسوا ضمن دائرة التنافس والتناحر بين نخبها المتصارعة على النفوذ والمصالح على عتبات مسرحها السياسي الدامي.

غرق العبّارة في نهر دجلة وعلى متنها أضعاف قدراتها على التحمل في مهرجانات الموصل الاحتفالية في عيد الربيع كشف عن حجم التقصير الحكومي الكبير على المستويين المحلي والاتحادي في مراعاة قواعد السلامة والالتزام بمعاييرها وكشف كذلك عن حجم اللا مبالاة إزاء التحذيرات التي تصدر عن الجهات الرسمية وعن غيرها ممن يعنون بالمياه والأمن والسلامة في الإبحار عبرها.

ما حدث في جزيرة أم الربيعين في الموصل في الحادي والعشرين من مارس الجاري غير مستغرب في سياق مسلسل النكبات التي يتعرض لها أبناء الشعب العراقي رغم أنه أكثر مرارة مما سبقه من مآسي لأن جل ضحاياه هم من النساء والأطفال في ظروف احتفالات عيد النوروز وفي أجواء بهجته.

يوم فُقد فيه ما يقرب من المائتي إنسان بين غريق ومفقود قد تترد الناس في الاحتفال به في المستقبل بعد أن أصبح يوم نكبة ومأتم. هذا الحدث هو الأول في ضخامة عدد ضحاياه منذ التفجير في الكرادة الشرقية في يوليو 2016 الذي فقد فيه ما يزيد على الثلاثمائة شخص من المدنيين حياته حرقاً.

ربما من السذاجة التساؤل عن المسؤول عن وقوع هذا الحدث الجلل، لأن الجواب عن ذلك لن يكون بضع كلمات أو الإيماء إلى بضعة مناصب وظيفية وإلى الأشخاص الذين يتنبؤوها بل يتطلب الإحاطة بكل جوانب هذا الحدث كنموذج لمأساة أوسع شملت العراق كله منذ العام 2003 وقد تتكرر مثلها أو ما يشابهها في المحافظات الأخرى لأن أجواء حصولها موجودة في كل مدينة عراقية.

لا أحد يتشكك بصدق ما اكتسى وجهي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من حزن وأسى عميقين ولا بعنف اهتزاز عواطفهما وهما يشاهدان جثث الأطفال ويستمعان إلى مواطني الموصل المصدومين من هول ما جرى والمصدومين أيضاً بمستوى العجز الحكومي عن مواجهته بغياب الدفاع المدني وبؤس تجهيزات واستعداد الشرطة النهرية.

ولكن مقاربتهما لذلك، وهما خير من يعلم، تتطلب ما هو أبعد كثيراً من مجرد تشكيل لجنة للتحقيق للتعرف على تفاصيل ما حدث أو إحالة محافظ الموصل ونائبيه إلى مجلس النواب واستصدار قرار بعزلهما أو معاقبة بضعة عمال مسؤولين عن تسيير العوامة.

حجم الحدث وجسامته يضعانهما في مواجهة مسؤولياتهما أمام الشعب والتحلي بالجرأة والشجاعة في مواجهة الفساد الذي أصبح بعرابوه وحواضنه وأجهزته ومنظوماته التي تطورت بشكل ملفت بمثابة عقيدة عابرة للمناطقية وللعرقية وللدينية وللمذهبية، عقيدة تمارس بإرادة أحزاب وتفرض بقوة السلاح بوساطة ميليشيات لم تستطع الحكومات المتعاقبة مواجهتها بسبب الضعف في كيانات الدولة وضعف همم وإرادات المسؤولين.

ما صنع هذه الكارثة خليط متراكم من الإهمال والتقصير وعدم الكفاءة وسوء الإدارة والجشع وغفوة الضمائر والاستهتار والاستهانة بحياة الناس. كل هذه الرزايا قد اجتمعت وتجذرت بسبب السياسات المنحرفة التي انتهجت منذ التغيير في 2003 التي انتعش الفساد واستشرى في رحابها ليصبح الآفة الأكبر والأصعب في المواجهة.

وسيلة العبور النهري التي غرقت لم تمتلك من المواصفات ما يؤهلها للحصول على مسمى «عبّارة» فهي لا تتعدى أن تكون «طوافة» متهالكة صنعت محلياً بشكل غير متقن عام 1997 ولم توضع قواعد لاستخداماتها ولا تتوافر فيها وسائل ضمان السلامة ولا الأشخاص المؤهلين للمساعدة في الحالات الطارئة وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول ترخيصها والسماح لها ولطاقمها بممارسة العمل بمعزل عن رقابة الأجهزة الحكومية وبتجاهل قواعد النشاط النهري التي يحددها مستوى المياه في النهر وسرعة جريانه وما يصدر من معلومات حول ذلك من وزارة الموارد المائية التي كانت قد أصدرت تحذيرات قبل يومين من الحادث من أنها ستطلق دفقات من المياه في النهر لارتفاع منسوبه في سد الموصل.

كاتب عراقي

Email