العرب والثورة الصناعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في القرن الثامن عشر، غيّرت الثورة الصناعية الأولى جميع المفاهيم الحياتية، وغيرت موازين القوى العالمية، ومع وصول الثورة الصناعية الثانية ومن شدة التطور الذي حصل حينها في تصنيع الآلات الثقيلة أصبح العالم مشتعلاً مما أدى لنشوب الحروب العالمية، ومن بعدها ومع بداية الخمسينات من القرن الماضي ظهرت الثورة الصناعية الثالثة واجتاح الحاسوب جميع مناحي الحياة، وأصبح ركيزة أساسية في التطور والتقدم، واليوم ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة وتقنيات الجيل الخامس نتساءل؛ أين نحن من هذه الثورة؟!، ولماذا لم تصلنا إلا كمستخدمين لها فقط؟

هذا التساؤل يأخذنا لتساؤل أكثر دقة، أين هي الصناعات العربية، ولا أقصد هنا صناعة الأغذية أو مواد الخام، إنما أقصد الصناعات الثقيلة، والتي تمثل اليوم مركز القوى في هذا العالم، ومنتجو هذه الصناعات هم أصحاب الاقتصادات الأقوى عالمياً، ولماذا لم تصلنا هذه الطفرات الصناعية والتقنية، وهل فات الميعاد ولم يعد بمقدورنا اللحاق بهم؟أم أن هناك اتجاهات أخرى علينا مسلكها للوصول لطفراتنا الصناعية؟، لنرى!

الوجهة والتوجه وتحولاتها أمر مهم في صناعة التطور، فكلما تتطور الصناعات يتطلب الأمر تحويل الوجهة نحو هذا التطور، فاليوم ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة يجب أن نركز على استغلال هذه التقنية ونكون مركزاً لها بدلاً من استقطاب منتجاتها دون أن ننتجها، وهذا ما تعمد دولتنا الإمارات على إيجاده، فعندما تجد في رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن يجعل من دبي مركزاً لتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، هذه التقنية التي ستغير شكل الكون؛ بل شكلاً ومضموناً، فهذه فرصتنا في وضع أنفسنا في بوصلة الصناعة العالمية، فمن خلال التكنولوجيا المستخدمة في هذه التقنية سيصبح الإنتاج أكثر سهولة ولا يحتاج لخطوط إنتاج معقدة، بل سيتم الأمر عن طريق تشغيل العقول وإبداعاتها في تطوير إمكانيات هذه التقنية وإنزالها أرض الواقع.

الهدف الذي يرنو إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لا يحتاج سوى عقول تبدع، وهذا ما عمدت أوروبا على إيجاده مع بداية كل ثورة صناعية، أن تسمح للعقول بأن تعمل قبل الأيادي، أن تُوظّف العقول لتخفف من أعباء الأيادي، أن تجعل العقول تزيل وتكسر كل الحواجز أمام معاناة البشر وتحررها من أي معوقات تجعل عقولها محدودة الإنتاج والإبداع، وهنا مربط الفرس كما يقال، نحن بحاجة للاستثمار في العقول، وأن يكون نتاجها هو التقييم الحقيقي للإنسان، بدلاً من تقييمات بالية تستخدمها مؤسساتنا العلمية والصناعية وحتى الحكومية في تقييم منتسبيها.

إن دولتنا ولله الحمد خير مكان لمواكبة الثورات الصناعية الحديثة، فمن تابع كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في حديثه في مجلس أجيال المستقبل عندما وجّه الإماراتيين إلى اتخاذ مبدأ مهم في الصناعة وهو التركيز على النوع والجودة وليس التركيز على الكم، حيث إن الكم له دوله ومجتمعاته مثل الدول ذات التعداد السكاني الكبير، بينما النوع والجودة يحتاج فقط لعقول أكثر من التعداد، فبعض الصناعات البسيطة والصغيرة تفوق بعوائدها كبرى الصناعات الثقيلة ولنا في تجربة سويسرا خير مثال، من يتمعن في كلام سموه وشرحه في هذا الجانب يكتشف أن الإمارات تريد أن تضع بصمتها في عالم الصناعات، وأن تجد لها مكانة حقيقية في الكثير من القطاعات الصناعية.

اليوم، ومع تطور العالم أصبحت الفكرة هي الأهم، أصبح التنافس على كيفية استقطاب الأفكار وتحويلها لأعمال تجارية، فالأمر لم يعد بحاجة لصناعات ثقيلة، إنما هناك قطاعات أكثر أهمية كالقطاع التكنولوجي من أجهزة ذكية ولوحية أو القطاع البرمجي، فبرنامج أو منصة أو تطبيق ذكي واحدة قد تجعل العالم يتغير، وتتغير معه بوصلة الاقتصاد، وهنا يكمن التحدي، وهنا يجب التركيز مرة أخرى على العقول المنتجة للأفكار قبل أي شيء، على العقول التي بمقدورها الابتكار وخلق ما هو جديد، أو تطوير ما هو موجود بشكل منافس.

هذه العقول يجب علينا أن نكتشفها، وأن نطلق لها العنان لأن تبدع، لأن تفكر، لأن تنفرد في التفكير، فأمثال هؤلاء مطالبين أن ينتجوا فكرة واحدة كل عام، وليس الجلوس ثماني ساعات على المكاتب، هؤلاء عرفت الدول الصناعية كيف تجندهم وتستغل نتاج أفكارهم، وعلينا أن نتعلم، ولا نجعل لعقولنا العربية مفراً ولا مهرباً لأن تعطي أفكارها لغير دولنا، صحيح أنهم سبقونا، ولم يصلنا من ثوراتهم الصناعية إلا القليل، إلا أن الثورة الصناعية الرابعة ستمكن كل فرد من أن يكون أكبر شركة في العالم، ستمكن أي دولة من أن تتربع على أسهم الاقتصادات العالمية، ستمكن أي جامعة أو مؤسسة بحثية أن تقود العالم نحو آفاق جديدة.

 

 

Email