سؤال التدخل في فنزويلا

ت + ت - الحجم الطبيعي

جددت الأزمة السياسية في فنزويلا طرح السؤال القديم مرة أخرى: هل يحق لدول أجنبية التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى؟ متى يمكن لهذا أن يحدث، وما هي شروطه؟ وما علاقة ذلك بحق الدولة في حماية سيادتها؟

في فنزويلا فشل اقتصادي ممتد ويتعمق منذ عدة سنوات، وفيها أيضا أزمة سياسية تزداد صعوبة كلما ساءت الأوضاع الاقتصادية. الأزمة الاقتصادية في فنزويلا هي آخر ما يمكن توقعه في بلد يمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، إلا أن السياسات الاقتصادية، والصراعات والانقسامات السياسية كانت كفيلة بتحويل النفط من نعمة إلى نقمة.

الفشل الاقتصادي هو العنوان الأبرز لما أعتبر فشل حكومة الرئيس نيكولاس مادورو. كان التضخم قد وصل إلى 40% في عهد الرئيس السابق هوغو شافيز الذي حكم البلاد حتى عام 2013، غير أن هذا يعد إنجازاً كبيراً بالقياس إلى ما حدث خلال العام الماضي تحت حكم مادورو، عندما وصل التضخم إلى أكثر من مليون بالمائة، نعم مليون بالمائة بلا أخطاء مطبعية.

في فنزويلا تتضاعف أسعار السلع مرة كل تسعة عشر يوماً، ومعها يتدهور سعر صرف العملة الوطنية «بوليفار»، حتى أنه في نهاية عام 2018 أصبح يلزمك ما يزيد على 1600 بوليفار لكي تحصل على دولار واحد، بعد أن كان الدولار يساوي أقل من 50 بوليفار في بداية العام.

لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو في ظل هذا التضخم الرهيب، ولهذا فقد تراجع الناتج المحلي في فنزويلا بنسبة 16% كل عام خلال السنوات الثلاث الماضية، بمعنى أن اقتصاد البلاد كان في كل عام يصبح أصغر مما كان عليه في العام السابق بنسبة 16%، وهو الأمر الذي تكرر طوال السنوات الثلاث الأخيرة.

يعني هذا من الناحية العملية أن المزيد من المزارع والمصانع والمتاجر تغلق أبوابها كل عام، فيتناقص حجم السلع المتاح في الأسواق، ويرتفع ثمنها، ويفقد المزيد من الناس وظائفهم، فيترافق الغلاء مع الفقر ونقص السلع، حتى أصبح تسعة من كل عشرة من المواطنين الفنزويليين يجد صعوبة في تحمل تكلفة الغذاء، وأصبح من الصعب جداً الحصول على السلع الغذائية والأدوية وأدوات النظافة الشخصية، الأمر الذي دفع أكثر من ثلاثة ملايين من مواطني فنزويلا، أي أكثر من 10% من السكان البالغ عددهم ثلاثين مليوناً، للهجرة إلى البلاد المجاورة، خاصة إلى كولومبيا وبيرو وإكوادور وبنما والبرازيل، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأسبانيا، الأمر الذي دفع هذه الدول التصرف كطرف في أزمة فنزويلا.

لقد وصل الأمر الآن إلى أن البلد أصبح له رئيسان يتنازعان السلطة، أولهما هو الرئيس ذو التوجهات الاشتراكية نيكولاس مادورو، الذي أعيد انتخابه لفترة رئاسة ثانية في مايو 2018؛ وثانيهما هو رئيس البرلمان الليبرالي الذي أعلن نفسه قائماً بأعمال الرئيس لحين إجراء انتخابات جديدة. تتمتع المعارضة الليبرالية بأغلبية في البرلمان، وهي ترفض نتيجة الانتخابات الرئاسية بسبب التلاعب الحكومي بالعملية الانتخابية.

أما العالم الخارجي فقد انقسم بين مؤيد لشرعية الرئيس الاشتراكي مادورو، ومؤيد لرئيس البرلمان ذو التوجهات الليبرالية. للصراع في فنزويلا بعد إيديولوجي صريح، وكذلك الانقسام الحادث بين دول العالم إزاء الأزمة في فنزويلا، الأمر الذي يحيي في الأذهان ذكريات الصراع الإيديولوجي العالمي في زمن الحرب الباردة.

الكثيرون في فنزويلا يرفضون حكومة الرئيس مادورو، لكن هناك عدد مماثل أو قريب من المؤيدين لهذه الحكومة. يرى كثيرون أن حكومة مادورو دمرت اقتصاد البلاد، لكن كثيرين آخرين مازالوا يذكرون للحزب الاشتراكي الحاكم سياسات الرفاه الاجتماعي السخية التي طبقها طوال العقد الأول من هذا القرن.

ويعتبر البعض أن الاشتراكيين أساؤوا إدارة القطاع النفطي، أهم قطاع منتج في اقتصاد البلاد، ثم جاءت تكلفة السياسات الاجتماعية السخية لتزيد من صعوبة الموقف، لكن كثيراً من الفقراء الذين استفادوا من هذه السياسة مازالوا يساندون الحزب الاشتراكي والرئيس مادورو.

هناك أزمة سياسية عميقة في فنزويلا، لكن الوضع في هذا البلد شديد الالتباس بما يجعل التدخل الخارجي مغامرة يلفها عدم اليقين بشأن ما إذا كانت تدخلات القوى الخارجية ستؤدي فعلاً إلى تحسين الوضع، أم أنها ستؤدي إلى مزيد من العناد والتشدد من جانب طرفي الصراع. الوضع في فنزويلا ينطوي على تهديد لمصالح الجيران، لكن هذا التهديد يظل في حدود التهديد غير الخشن منخفض الحدة.

فحكومة الرئيس مادورو لم تقم بالاعتداء على أي من جيرانها، أما في الداخل فالبلد يعاني من أزمة سياسية حادة وعنف متزايد، لكن لا يوجد في فنزويلا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ولم ترتكب في البلاد جرائم ضد الإنسانية أو أعمال إبادة تبرر التدخل الخارجي، ومن الأفضل في موقف كهذا مساعدة الأطراف على تحقيق المصالحة والوصول إلى حل وسط، وليس التدخل وأخذ جانب هذا الطرف أو ذاك، فسيادة الدول يجب أن تكون موضعاً للاحترام، أما المشكلات السياسية فيجب حلها في إطار الدولة الوطنية وليس عبر حدودها.

 

Email