شجرة الغاف وفـــلسفة التسامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

ببصيرته الإنسانية الفريدة، ونظرته الثاقبة في بواطن الأمور، اختار صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، شجرة الغاف لتكون رمزاً لعام التسامح الذي استهلّ باللقاء الإنساني بين الإسلام والمسيحية.

كشجرةٍ راسخة الجذور في قلب الصحراء العربية، لتكون رمزيتها العالية دالّةً على أن البشرية تبحث بدأب عن لحظة من الظلّ الظليل في قلب الصحراء اللاهبة، فقد تم استنزاف الكثير الكثير من المقدرات البشرية في الصراعات والحروب، وأصبح العالم على شفا استقطاب دينيٍّ يُنذر بأوخم العواقب، فجاءت هذه المبادرات من حكماء كل دين للبحث عن أرض مشتركة تجمع إنسانيتهم، وتفتح النوافذ لدخول نسمة عليلة من هواء المحبة والتسامح.

وشجرة الغاف في ثقافة الإمارات لها رمزية خاصة تختلف عن مثيلاتها في الدول الأخرى التي تنمو فيها هذه الشجرة الصحراوية العصيّة على الذبول، فهي تقاوم أعتى الظروف البيئية، وتتحمل درجات الحرارة اللاهبة، وتقلبات الرياح، وتصمد صموداً أسطورياً في وجه الزمن، ولذلك كان حظها من الرعاية عظيماً في الإمارات حين أصدر باني الوطن ومُشيّد أركانه المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، رحمه الله، قوانين وتعليمات بمنع قطعها في ربوع الوطن.

فضلاً عن تشجيع زراعتها، لما لها من دورٍ عظيم الأثر في طبيعة الحياة اليومية للإماراتيين الذين استفادوا منها في الغذاء، وكذلك لإطعام الحيوان، وغير ذلك من مظاهر الانتفاع، فكانت وما زالت شجرة تحظى بمكانة خاصة في وجدان إنسان هذه البلاد، فلم يكن غريباً أن يجعلها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، رعاه الله، رمزاً للتسامح والتعايش، والبحث عن السبل التي تزداد بها أواصر التفاهم والتعاون بين الشعوب والديانات المختلفة.

وإذا كانت شجرة الغاف قادرةً على مقاومة التصحر البيئي، فإنّ اختيارها كرمز للتسامح لا يخلو أيضاً من هذا المعنى، فالبشرية في لحظات الجفاف الروحي تحتاج إلى مقاومة التصحر الذي يتسلل إلى الأرواح ويَعيثُ فيها فساداً، ويحرم الإنسان من نعمة السكينة المستفادة أصالة من الدين، فإذا أصبح التدين سبباً للحروب والصراعات، فأين سيجد الإنسان سكينته وملاذه الروحي الآمن؟

إنّ جوهر الدين يقوم على التسامح بسبب طبيعته السماوية المترفعة عن الحقد والبغضاء، وإنّ جميع لحظات التوتر القصوى بين الديانات هي بسبب الفهم الخاطئ للدين، وليست نابعة من طبيعة الدين، بل من الفهم البشري المتوتر لنصوصه.

وإنّ المتأمل في طبيعة الديانة المسيحية والإسلامية يجد بينهما من منطلقات التفاهم والتعاون ما يلفت النظر، بل إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول شيءٍ فعله حين وصل إلى المدينة المنورة هو عمل وثيقة للسلم والعيش المشترك مع القبائل اليهودية التي كانت تعيش بالقرب من المدينة المنورة.

كما تكشف نظرة فاحصة لطبيعة التعاليم الإسلامية عن رغبة الإسلام في أن تكون العلاقة مع أهل الكتاب في إطار السلام والتعايش، فقدّم صورة شديدة الوضوح والجاذبية لطبيعة الإنسان المتدين المسالم في الدين المسيحي البعيد عن التعصب، فجعلهم أقرب الناس مودّة للإسلام وأهله، فقال سبحانه

: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قِسّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون} (المائدة: 82)، بل إنّ الله تعالى أثنى على الصالحين من اليهود الذين كانوا يتمتعون بأخلاق العبودية الصالحة، لكي يرسّخ في قلوب أتباعه أنّ الإسلام سيظل على تواصل مع جميع اللحظات المضيئة في الديانات الأخرى حين تُعرب عن احترامها للإسلام، وتتعامل مع المسلمين ضمن الأخلاق الإنسانية العالية النابعة من المحتوى الأخلاقي للدين السماوي.

إنّ التسامح مصدر مشتقّ من الفعل «سمح» ومنه «السماحة»، وقد ورد في الحديث النبوي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «بُعثْتُ بالحنيفية السَّمْحة»، تأكيداً منه صلّى الله عليه وسلّم أن طبيعة الدين في الأصول والفروع تقوم على السماحة واليُسر واستيعاب كينونة الإنسان وفطرته، ليكون التسامح في جوهره وطبيعته مظهراً من مظاهر قوّة الدين وأصالته وثقته بنفسه.

وليس مظهراً من مظاهر الضعف والترهل، كما يتبادر إلى العقول القاصرة عن استيعاب حكمة الدين وفلسفة التدين. وبحسب حكيم الإسلام وشيخ المفسرين في العصر الحديث، العلّامة محمد الطاهر بن عاشور، فإنّ السماحة والتسامح هما مظهرٌ وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وبالتالي فالسماحة منبع الكمالات، وقد ظهر للسماحة والتسامح أثرٌ عظيمٌ في قبول الإسلام وانتشار أنواره.

وقد دخلت أممٌ كاملة في دائرة الإسلام بسبب أخلاقية التسامح، فكان له من الأثر العظيم ما لم يكن للسيف القاطع، وفي عصرنا هذا يحتاج الإسلام إلى الكشف عن هذا الجوهر المكنون في طبيعته، بعد أن تمّ تشويه صورته في كثير من الممارسات العنيفة، بحيث غدا ديناً رديفاً للإرهاب والتطرف والقتل، ممّا أدى إلى نشوء نفرة حضارية لدى بعض الشعوب التي تقف عند هذه القشرة الظاهرة، ولا يتسنّى لها معرفة الحقيقة في سياقها الصحيح.

ولكيلا تبقى هذه الأفكار في إطار النظريات، فيجب الإشارة إلى الممارسات العملية لأخلاقية التسامح داخل الدولة الإسلامية القوية التي تحافظ على حقوق أهل الكتاب، وتستلهم التعاليم الدينية الصحيحة في حسن التعامل معهم من مثل قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين} (الممتحنة: 8).

ومن مثل قوله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ آذى ذِمّياً فقد آذاني». فهل بعد هذه النصوص الواضحة يبقى مجال لنشوء علاقة تقوم على الاحتقار وهضم الحقوق والتسلط؟ لا سيما أنّ الإسلام قد سمح بنشوء أرقى علاقة إنسانية بين البشر من خلال الزواج، فسمح بالزواج من الكتابيات مع الصيانة التامة لحقوقهن الدينية والاجتماعية والنفسية، تأكيداً منه للسلم الاجتماعي والسكينة الإنسانية التي تقتضي بالضرورة ارتكازها على وعي عميق بمفهوم التسامح والاحترام المتبادل بين الجميع.

إنّ الإسلام حين يلتقي للحوار مع حكماء المِلل الأخرى فهو إنّما يعبّر عن حيويته وقدرته على الوجود وعدم انسحابه من مشهد الحياة ما دامت ثوابت العقيدة بعيدة عن المِساس، وإنّ طبيعة الإسلام الأخلاقية تُربّي في أتباعها الثقة بالنفس والقدرة على احترام الآخر وعدم الانزلاق إلى التعصب المقيت الذي يُقيم حجاباً كثيفاً بين الناس وبين حقائق الإسلام الصافية الصحيحة.

فالبشرية تحتاج إلى التفحص الهادئ لمختلف أنساق الحياة، وما المانع أن يكون هناك حوار متكافئ يقوم على الوعي بالمصلحة المشتركة والرغبة الصادقة في صيانة السلم الاجتماعي ونشر ثقافة التسامح والتعاون بدلاً من التحيّز داخل قوقعة التعصب وإغماض العين وإغلاق الأذن عن سماع أي صوت إنساني رشيد؟

ليتنا نقرأ سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بعين الإنصاف والبحث عن الحقيقة، فإنّنا واجدون في سيرته العطرة من الكمالات الأخلاقية ما يجعلنا نفتخر بأننا من أتباعه، فمن بين شفتيه الكريمتين خرجت هذه الجملة الجليلة حيث يقول: «وأنا بِشارةُ أخي عيسى»، صلى الله عليهما، ومعلوم لدى الجميع كم هي ساميةٌ منزلة عيسى المسيح وأمه مريم البتول صلوات الله عليهما في نفس المسلم وهو يقرأ سورة مريم التي أفردها الله تعالى لحكاية قصة هذه الطاهرة العذراء، والتي نتعبّد الله تعالى بتلاوتها وتقدير محتواها الديني العميق.

Email