دافوس.. والإرادة الدولية

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلقت أمس أعمال الدورة التاسعة والأربعين للمنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية وتستمر أعماله إلى يوم الجمعة المقبل، وتحمل هذه الدورة مسمى: «العولمة في عصر الثورة الصناعية الرابعة: رسم ملامح البنية العالمية في عصر الثورة الصناعية الرابعة».

عادة يصاحب منتدى دافوس السنوي تفاؤلات المراقبين في مواجهة التحديات التي تواجه البشرية منذ بدء فعالياتها في العام 1971، باعتبار أن المنتدى هو منصة عالمية للاقتصاديين والسياسيين لإجراء حوارات من أجل البحث عن الحلول للمشكلات التي تواجه العالم، إلا أن هذا العام يكاد يجمع أغلب المراقبين أنه لا يوجد سبب واحد للتفاؤل يمكن لشعوب العالم أن تتعلق فيه، لأن المؤشرات الأولية - غياب أبرز قادة العالم السياسيين - تبدو معتمة ومحفوفة بعدم التعاون بين الدول الكبرى.

هناك قلق واضح من عدم إمكانية تحقيق التفاهم بين المجتمعين في «دافوس» حول القضايا الرئيسية التي يواجهها العالم، سواء التغير المناخي أو الاحتجاجات السياسية أو الأزمات الاقتصادية نتيجة لعدم وجود الرغبة في العمل الجماعي بين القادة السياسيين خاصة بين أكبر دولتين في العالم الولايات المتحدة وروسيا، أولعدم اهتمام الآخرين بالمنتدى نتيجة للأزمات الداخلية التي تبدو أن لها الأولوية مثل بريطانيا المهتمة بالخروج من الاتحاد الأوروبي وفرنسا باعتصامات أصحاب السترات الصفراء، أما من يحضرون فإن مجيئهم من باب تسجيل شرف الحضور نتيجة لانتهاء مدتهم السياسية مثل أنغيلا ميركل المستشارة الألمانية، لذا فإن اللقاء لن يكون للحسم واتخاذ القرارات التي تخدم العالم بقدر ما هو مناسبة لتوديع السياسيين بعضهم أو تشكيل تكتلات اقتصادية جديدة لرجال الأعمال.

إذاً المؤشرات القادمة من دافوس تبعث على القلق أكثر مما تطمئن، وعلى ذلك فهي تدعو إلى اليأس أكثر من أنها تجدد الأمل في مثل هذه اللقاءات.

وليس من باب المبالغة في شيء أن فكرة العمل الجماعي، التي كانت سائدة خلال العقود الماضية، في مواجهة التحديات تراجعت مؤخراً بشكل كبير، سواء على المستوى العالمي خاصة بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة في بلاده والخروج من الاتفاقيات الدولية وعدم الاعتراف بها مثل الاتفاقية المناخية، وبروز عنصر الانفكاك السياسي الأوروبي عن العمل الوحدوي، وتفكك وحدتها بخروج بريطانيا منها التي ما زالت تواجه مشكلات في الخروج السليم، وتصاعد مطالب دول أوروبية أخرى بالخروج، فالكل بات يرفع فكرة العمل الفردي «أنا أولاً» أو بلادي أولاً وهو مفهوم قد يكون منطقياً ووطنياً إلا أنه في ظل التحديات التي تواجه الجميع فإن ما يعرف بالأنانية السياسية ليست مناسبة، وإلا ستحل كارثة على الجميع.

إن أغلب العواصم العالمية ترفع هذا الشعار وتبرر موقفها منه مع أن حالة التردي لاستقرار العالم تتطلب الجهد من الجميع في التعاون والعمل الجماعي، وهنا تكمن المفارقة، ففي حين أن الهدف الأساسي لمنتدى دافوس هو إيجاد أرضية للتفاهم وتقريب وجهات نظر في القضايا المشتركة، وأن «العولمة» جاءت من أجل الاهتمام بقضايا الناس أكثر، إلا أن المنتدى تحول ليكون ملتقى لاستعراض الأفكار السياسية الفردية، ما يدل إلى أن الاتجاه يسير نحو إضعاف الإرادة الدولية في وضع الحلول الجماعية.

منذ حوالي أكثر من عقد، منذ الفترة الأولى من عهد إدارة باراك أوباما، تزعزع مصطلح العمل المشترك عالمياً، خاصة في قضايا منطقة الشرق الأوسط من خطابات السياسيين في العالم، وتحول مفهوم «العمل الوطني» الفردي هو السعي للوصول إلى سدة الحكم ولا يمكن استثناء هذا المفهوم في منطقة جيوسياسية معينة، الأمر الذي دفع بأغلب المراقبين إلى الشعور بالقلق من تراجع لغة التفاهمات المشتركة، فصار الانكفاء السياسي مع عهد الرئيس دونالد ترامب هو سيد الموقف العالمي وعنواناً رئيسياً للمرحلة المقبلة.

باتت مثل هذه المؤتمرات فرصة لاستغلال بعض السياسيين لأهداف غير أساسية منها: ترويج أفكار التشرذم والتفكك من العمل الجماعي في مواجهة الأزمات والمشكلات التي تواجه الإنسانية.

Email