سطوة الكراسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لست من هواة مشاهدة المسلسلات التلفزيونية ذات الأجزاء الطويلة، التي تصل حلقات بعضها إلى أكثر من 500 حلقة. لكن هذا لا يعني أنني أصادر حق الذين يحبون مشاهدة هذه المسلسلات، بل أحترم هوايتهم من منطلق أنه لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع.

ولعل أكثر هذه المسلسلات شهرة لدينا مسلسل «حريم السلطان» التركي في نسخته المدبلجة إلى العربية من مسلسل «القرن العظيم» التاريخي، الذي يرصد سيرة الخليفة العثماني «سليمان القانوني» وفق رواية الكاتبة التركية ميرال أوكاي، المسلسل الذي حقق نجاحاً ساحقاً لا يمكن تجاهله.

ورغم أن «سليمان القانوني» يعتبر أهم حاكم في تاريخ الدولة العثمانية، إلا أن المسلسل ركز على حياته الخاصة. الأمر الذي أثار لغطاً كبيراً في تركيا بلغ حد المطالبة بوقف المسلسل من قبل البرلمان التركي، كون الدولة العثمانية بلغت في عهده أقصى اتساع لها.

وهو ما لم يركز عليه المسلسل، وإن كان قد تناوله على هامش مؤامرات حريم السلطان التي كانت تحدث داخل القصر، في الوقت الذي كانت الدولة فيه تتوسع وتحقق انتصارات عسكرية كبرى.

وبغض النظر عن الانتقادات التي وُجِّهت للمسلسل، والتي ركز أغلبها على أنه عمد إلى تشويه صورة الخليفة العثماني التي رسمها المؤرخون، إلا أن بعض المعلومات التي اعتمدت عليها كاتبة المسلسل موثقة ومعروفة.

ومنها قتل سليمان لابنه البكر من زوجته الأولى «مهدفران سلطان» وولي عهده الأول «شاهزاده مصطفى»، بعد أن أوغرت زوجة أبيه «خُرَّم سلطان» والصدر الأعظم «رستم باشا» صدر السلطان عليه، وأقنعاه بأنه يقود تمرداً على حكمه، لتمهيد الطريق نحو العرش لسليم ابن «خُرَّم سلطان» التي ورد اسمها في المسلسل «هويام».

مشهد إعدام السلطان سليمان القانوني لابنه مصطفى كان واحداً من أكثر المشاهد التي أثارت جدلاً سياسياً واجتماعياً في تركيا عند عرض المسلسل.

ورغم أن حقائق التاريخ لا تثبت ولا تنفي بشكل قاطع خيانة مصطفى لأبيه، إلا أن الرسالة التي تركها مصطفى لأبيه كي يقرأها بعد إعدامه، مثلما أوردتها الكاتبة في المسلسل، كانت مؤثرة بشكل لافت، وطرحت السؤال حول سطوة كرسي الحكم، وهل يستحق أن يتآمر الابن على أبيه من أجله، إن صح أن مصطفى قد تآمر على أبيه للإطاحة به والاستيلاء على الحكم، أو يستحق أن يقتل الأب ابنه، مثلما فعل سليمان من أجل المحافظة على هذا الكرسي والدفاع عنه بكل هذه القسوة والوحشية، باعتبار أن قتل الأب لابنه قمة القسوة، أياً كان الدافع أو السبب.

يقول مصطفى في الرسالة التي تركها لوالده قبل ذهابه لمقابلته، وهو يتوقع أن يقوم الوالد بإعدامه، كما جاء نصها في المسلسل:

«مولاي، هذه الرسالة التي سأحملها في قلبي من المحتمل أنك لن تقرأها أبدًا، لأنني أكتب لمستقبل لا أريد له أن يتحقق. هذا ما أرجوه. وإذا لم تتحقق رغبتي وقرأتم هذه الرسالة فهذا يعني أنكم فرطتم بي.

يا مولاي، يا سلطان العالم، يا أبي.. بما أنكم تقرأون هذه السطور فهذا يعني أنكم نزعتم قلبكم ورميتموه، أما أنا فقد رحلت من هذه الدنيا الكاذبة. أعلم أنكم لطختم يدكم بالدم، وبأنكم قبضتم روحاً بريئة، مع أننا تعاهدنا وأقسمت لكم أني لن أتمرد عليكم، وأنكم لن تفرطوا بي.

أنا وفيت بوعدي يا أبي. بحق ولدي الوحيد محمد، وبحق ابنتي نرجس شاه، لم أخنك يوماً إطلاقاً، لكن أنتم نكثتم وعودكم وفعلتم ما قلتم إنكم لن تفعلوه يوماً. اليوم أترك لكم هذه الدنيا الظالمة التي فرط فيها أب بابنه، لأنني بدل أن أعيش في هذه الدنيا الفانية كظالم قتل والده الذي يحب من أجل السلطة والجاه، أفضل الموت مظلوماً يا أبي. ربما لن يكتب اسمي في صفحات التاريخ الذهبية مثل اسمكم.

لن يتكلموا في المستقبل عن انتصاراتي، لن يكون لي عرشٌ أحكم به العالم، وعلى الأغلب سيكتبون أنني أمير متمرد وخائن. فليكن ذلك، ليكتبوا، وليخفوا ما يعلم الله عن عباده. بعد سنوات أو ربما بعد عصور سيأتي يوم تقصُّ فيه حكايات المظلومين. أحدهم سيروي حكايتي، البعض سيسمعون وسيعرفون الحقيقة، وفي ذلك اليوم يكون حق المظلوم قد عاد إلى صاحبه».

ردود فعل الأتراك فور انتهاء تلك الحلقة كانت مذهلة، حيث شهد موقع تويتر في تلك الليلة أكثر من مائتي ألف تغريدة تنعى الأمير مصطفى بكلمات وداع مؤثرة.

كما شهد ضريح الأمير المقتول بمدينة «بورصة» التركية، في واقعة هي الأولى من نوعها، زيارات غير مسبوقة من آلاف الأتراك، بالرغم من أن الضريح كان خاضعاً لأعمال الصيانة والترميم وقتها، إلا أن ذلك لم يمنع آلاف الأتراك من الصلاة والدعاء والبكاء الشديد أمام قبر الأمير مصطفى، في مشهد لم يسبق أن شهده ضريح عثماني في أيامنا الحالية.

وعلى الوجه الآخر أقبل المؤيدون لتصرف السلطان بكثافة على قبره، في حالة من الحنين إلى عهد سليمان.

من أين أتيت بكل هذه القسوة أيها السلطان؟

من أين أتيت بكل هذه السطوة أيها الكرسي؟

أسئلة تطرحها علينا هذه الروايات التاريخية التي لها من الحقيقة نصيب، ولها من ميول المؤرخين نصيب. ويبقى السؤال المهم: هل يعيد التاريخ نفسه؟ هذا سؤال مُختَلف على جوابه، لكن المُتّفَق عليه أن المتهافتين على الكراسي يعيدون استنساخ أحداث التاريخ بأشكال مختلفة، حتى لو كانت هذه الأحداث مؤلمة ودامية.

Email