الكتابة والعضلات الرخوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليست الكتابة، في أي وجه من وجوهها، عرضاً للعضلات. غير أن الكتابة قد تبرز عضلاتها أمام المتلقي دون أن يقصد الكاتب هذا. ونحن إذ نستعير كلمة عضلات من حقل الرياضة وكمال الأجسام في قولنا عن الكتابة والكاتب، فإنما لنشير إلى معنى القوة في النص.

والنص القوي، سواء كان نصاً شعرياً أو فلسفياً أو فكرياً أو علمياً أو نقدياً أو فنياً، ما كان على غير غرار في مضمونه وجماله. وما كان صادراً عن عقل تحرر من عمليات التقميش، وراح يفكر ويبدع مستقلاً. وعندها يحصل المتلقي على ما ليس مألوفاً من الفكر والجمال والإنشاء بعامة.

غير أن هناك ظاهرة تكبر وتتسع في الكتابة العربية، ألا وهي ظاهرة عرض العضلات الرخوة.

والعضلات الرخوة في الكتابة العربية اليوم هي تلك التي تعود إلى كاتب الحشو الذي يملأ نصه بأسماء المشاهير وغير المشاهير في الغرب الأوروبي والأمريكي، وأمريكا في الثقافة غرب، بمناسبة وغير مناسبة.

وإذا تركنا الشعر والرواية جانباً، وهما نوعا الكتابة التي تنأى بنفسها عن الاتكاء على إبداعات الآخرين، أقول: إذا تركنا هذين النمطين من الكتابة، فإننا قلما نجد نصاً فكرياً وفلسفياً ونقدياً لا يقوم صاحبه بعرض عضلاته الرخوة التي استعارها من جسد كتابة الآخر. وهذا العجز في الكتابة يظهر على أنحاء مختلفة.

يحصل أن يبدأ الكاتب مباشرة نصه بسردية تعود إلى اسم مشهور، كأن يقول مثلاً: (يقول هنتجتون في كتابه صدام الحضارات...)، أو (جاء في كتاب فوكوياما نهاية التاريخ...)، أو يقول فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء...)، أو أسس تودوروف في كتابه (شعرية النثر...) الخ.

ها هو الكاتب هنا قد افتتح نصه بعضلات غيره من طغاة القول، ومقصوده الحصول على وثيقة حسن سلوك من اسم احتل مكانة كبيرة في عالم الكتابة، وبالتالي دافعه الحصول على اعتراف المتلقي.

طبعاً لا أتحدث عن الكتابة حول هؤلاء الأعلام التي تتطلب العودة بالضرورة إلى نصوصهم، وإنما عن الكتابة في موضوعات متفرقة. ويكون حشو أقوالهم لا قيمة له في النص. وإبراز العضلات الرخوة بهذه الطريقة تدعو إلى التأفف.

أو خذ مثلاً ظاهرة الكتب المليئة بالإحالات. حيث تجد في الصفحة الواحدة أحياناً ست إحالات. هذه الإحالات توحي للقارئ بأن الكاتب ذو أمانة علمية، تشير إلى حقوق أصحاب القول.

حسناً، إن إثقال النص بالإحالات يعني بأن هناك من قال كذا وقال كذا، ولكن السؤال: أنت يا صاحب الإحالات: ماذا قلت. وهذا شبيه بما تسميه العرب بالعنعنة. ولكن بطريقة مختلفة. إذ يقوم الكاتب بسرد حجته أو فكرته عن طريق الاستشهاد بمن قالوا بها مسبقاً. هذا يعني بأن الحجة ليست حجته، والفكرة ليست فكرته، ولكن هذه الإحالات ليست سوى عرض للعضلات الرخوة.

أما أسوأ حالة من حالات عرض العضلات الرخوة هي حالة التأليف المترجم.

والتأليف المترجم أن ينبري شخص ما متخصص بمبحث من مباحث المعرفة، ويعرف لغة أجنبية، ويقوم بترجمة نصوص من ثقافة أخرى وينسبها إلى نفسه. وهذا عرض لعضلات مسروقة. وتبرز هذه العضلات المسروقة في أسلوب الخطاب، إذ تفتقد اللغة العربية هنا روحها وأساليبها وبيانها. ولا سيما أن أغلب أصحاب التأليف المترجم ليسوا ضليعين في العربية.

وعندي بأن الكتابة الأصيلة ليست عضلات للعرض، وإنما هي روح جديدة في المضمون والشكل-الأسلوب. وليس هناك ما هو مذموم أكثر من التقليد والاتباع، والاغتراب بالآخر. بل إن نهضة الأمم لا تقوم إلا بتجاوز التقليد والاتباع، واجتراح وعي جديد بالعالم.

* كاتب فلسطيني

Email