التحالفات والأمن والتهديدات المتغيّرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

النظام الدولي هو نظام الاعتماد على الذات، فيه الدولة تعتمد على نفسها لحماية أمنها؛ فإذا حدث ووقعت ضحية لاعتداء، ولم يكن بإمكانها دفع المعتدي، فإنها لن تجد قانوناً أو شرطة أو قضاء دولياً يستعيد لها الحقوق المهدورة.

لكن بإمكان الدولة الدخول في تحالفات تعزّز قدرتها على حماية أمنها، وهذا لا يتناقض مع مبدأ الاعتماد على الذات، فالدولة تختار حلفاءها، وتتفاوض على شروط التحالف، وتشارك في تحمل تكلفته.

فالحلف هو اتفاق لتبادل المنفعة والالتزامات بين الدول، وفيما يمثل تعزيز الأمن المكسب الذي يعود على الدول المتحالفة، فإن التزاماتها تجاه الحلفاء هي التكلفة التي تتحملها من أجل قيام الحلف واستمراره؛ والمهم في كل هذا هو أن تصبح الدولة أفضل حالاً، وأكثر تمتعاً بالأمن بعد دخول التحالف منه قبلها.

لا تحالف بلا التزام، ولا التزام بلا تكلفه، وبتغير الالتزامات وطرق تحمل التكاليف تتنوع التحالفات. قد يقتصر الالتزام في بعض الأحيان على تزويد الحليف باحتياجاته من السلاح والمعرفة الفنية والتدريب والنصيحة والمشورة. في أحيان أخرى تلتزم الدولة بالدفاع عن حليفها ضد الاعتداءات الخارجية؛ وفي أحيان ثالثة يتسع الالتزام ليشمل الدفاع عن نظام ونخبة الحكم في الدولة الحليف.

تاريخياً وفي أغلب الأوقات كان التمييز بين العدوان الخارجي والتهديد الداخلي مجرد تمييز شكلي، فتهديد نظام ونخبة الحكم هو في أغلب الأوقات له نفس خطورة العدوان الخارجي، وله تداعيات وآثار أمنية مشابهة، بل إن خطورته قد تزيد في بعض الأحيان عن خطورة العدوان الخارجي بسبب ما يتسم به من تدرج وعدم يقين وخبث تآمري.

نوع التحالفات

بعض التحالفات مرنة مؤقتة قصيرة الأمد، تنشأ للتعامل مع تهديد محدد، وتنتهي بنهايته. التحالف الدولي الذي تكوّن لتحرير الكويت من احتلال وعدوان صدام حسين ينتمي إلى هذا النوع. البعض الآخر من التحالفات طويل الأمد، ينشأ لموازنة تهديد له صفة الديمومة، أو تعبيراً عن المصالح العميقة والثقة والتضامن طويل المدى بين أطراف الحلف.

الثقة والتحالفات طويلة المدى هي ظاهرة نادرة في العلاقات بين الدول لم نشهدها إلا في زمن الحرب الباردة، حين تضامنت الدول الغربية للتصدي للتهديد السوفييتي الشيوعي، فأسّست حلف الأطلنطي «ناتو»، فيما تضامنت حكومات الدول الشيوعية للتصدي للتهديد الغربي الرأسمالي الديمقراطي، فأسست حلف وارسو.

تحلل حلف وارسو مع انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، فيما ما زال «الناتو» صامداً، تعبيراً عن المصالح المشتركة العميقة والثقة المتبادلة بين الدول الغربية، وإن كان الحلف يتعرض لضغوط شديدة من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

الضغوط التي يواجهها حلف الناتو حالياً هي نتيجة لتغير طبيعة التهديدات، والخلاف حول أساليب مواجهتها، عما كان سائداً في زمن الحرب الباردة. ما زالت روسيا قوة نووية عظمى، لكنها لم تعد تتزعم معسكر الأمم الشيوعية، ولم تعد تسعى لنشر عقيدتها في أوروبا.

طموحات روسيا تقتصر على الدول التي كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي السابق، والتي تمثل لروسيا الجوار القريب، تعبيراً عن تقلص روسيا إلى قوة إقليمية، وإن كانت تمتلك قدرات نووية من طراز عالمي.

روسيا والصين

يختلف أعضاء الناتو حول الطريقة المثلى للتعامل مع التهديد الروسي في شكله الجديد، كما يختلفون حول الطريقة المناسبة لإدارة صعود الصين إلى مكانة القوة العظمى.

وفيما تحرص أمريكا على بناء قوة عسكرية متفوقة، وتطالب أعضاء الناتو بزيادة ميزانياتهم العسكرية، وتحمل نصيباً أكبر من نفقات الحلف، فإن أوروبا التي اعتادت الاعتماد على الدرع الدفاعية الأمريكية، تفضل توفير التمويل من أجل الإنفاق على برامج رعاية اجتماعية أوروبية مكلفة لا يوجد في الولايات المتحدة مثيلاً لها، الأمر الذي يزعج الأمريكيين الذين باتوا يشعرون أن حلفائهم الأوروبيين يستغلونهم، فتحولت قضية توزيع أعباء وتكلفة الحلف إلى قضية تهدد تماسك حلف الأطلنطي.

تجربة حلف الناتو الممتدة عبر الزمن وعبر التهديدات هي حالة نادرة الحدوث، حتى إنها تكاد تكون الحالة الوحيدة من هذا النوع. لقد سعى العرب لتحويل جامعة الدول العربية إلى حلف عربي دائم يعكس التضامن بين الدول والشعوب العربية، لكن المحاولة لم تتكلل بالنجاح.

يمتلك العرب ثقافة مشتركة، لكن الاشتراك في الثقافة لا يبدو كافياً لتوفير الأساس لمصالح أمنية مشتركة، ولرؤية مشتركة للتهديدات وأولوياتها، وللثقة والتضامن بين الحكومات العربية، خاصة وأن بعض العرب لم يتورعوا عن التصرف بطريقة تهدد أمن بعض العرب الآخرين، الأمر الذي يعني أن المصلحة والرؤية المشتركة، وليس الثقافة المشتركة، هي الشرط الضروري واللازم لقيام الحلف.

 

 

Email