محمد بن راشد والسعي لبناء المدينة الفاضلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل يوم لك احتمال جديد ومسير للمجد فيه مقام

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

هذا الشعر الجميل قاله أبو الطيب المتنبي في سيف الدولة الحمداني وغزواته وحروبه.. ولو قُدِّر للمتنبي أن يعاصر الشيخ محمد بن راشد، لرأى أن غزوات هذا الزعيم كثيرة، ولكن إلى الخير وإلى ما ينفع الناس، وما ينفع الناس باقٍ، وما لا ينفع فهو كالزبد يذهب جفاء، مصداقاً لقوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

قال مرة صحفي لا يحضرني اسمه الآن ما معناه، أن محمد بن راشد يتعبنا في الجري وراء متابعة إنجازاته المتوالية ولا يتعب هو!

وقد صدق هذا الصحفي.. أنا جمعت ما كتبته عن محمد بن راشد خلال ربع القرن الأخير في كتاب، وعنوانه محمد بن راشد في سباق الزمن، وظننت بعد أن صدر الكتاب أنني سجلت معظم إنجازات هذا القائد الفذ، ولكن اتضح لي أنه ما زال أمامي كم كبير من الإنجازات لم يتضمنها كتابي.

- («الإخوة والأخوات.. خمسون عاماً وهبتها لبلادي أعطتني خبرة وشيئاً من الحكمة وكثيراً من محبة.. أضع اليوم بين أيديكم ثمانية مبادئ للحًكم والحكومة في دبي.. نوصي جميع من يتولى مسؤولية في هذه الإمارة أن يلتزم بها مهما كانت الظروف.. أو تبدلت الأحوال أو تغيرت الوجوه») محمد بن راشد

لنقرأ، ونتوقف عند كل مبدأ من هذه المبادئ الثمانية أو التسعة أو الوصايا التسع أو المواد التسع لدستور الحكم في دبي.

إن الشيخ محمد بن راشد لم يذهب بعيداً لصياغة هذه المبادئ، وإنما اقتبسها من صميم وجدانه وما يتعايش به في صبحه ومسائه من النتائج الإيجابية التي تحققت على يديه، ممارسةً وإدارةً في دبي، ليس منذ أن تولى الإدارة المباشرة حاكماً منذ العام 2006، فحسب، بل أيضاً منذ نصف القرن الأخير الذي مرّ، ومنذ أن تولى إدارة الشرطة وتنظيمها في دبي عام 1966، وهو أول عمل إداري تنظيمي يتولاه محمد بن راشد منذ نيف وخمسين عاماً.

محمد بن راشد، إضافة إلى ما اكتسبه من تجارب واسعة وعميقة في حياته العملية على الصعيد المحلي والاتحادي طوال هذه الأعوام التي أتينا على ذكرها، كانت هذه الوصايا والمبادئ كامنة ومتأصلة الجذور في نفسه وفي ممارساته اليومية، ووجد عليها أباه الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، وقرأ عنها في مسيرة جده سعيد بن مكتوم، وجده الأكبر مكتوم بن حشر، الذين كانوا يمارسون ما تتضمنه اليوم مبادئ محمد بن راشد من الدعوة للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس وممارسة مبادئ المدنية بكل مظاهرها بين الرعية.

وكانت البداية لهذا النهج العملي في الإدارة المدنية في سبتمبر عام 1906، أي منذ مئة وخمسة عشر عاماً مضت عندما توفي حاكم دبي الشيخ بطي بن سهيل بن مكتوم، وتجمع جمع غفير من الناس أمام حصن الفهيدي ينتظرون أن يظهر الحاكم الجديد ويلفت أنظارهم إلى نفسه، فانبرى من بين الصفوف رجلان من أكابر رجالات دبي ومن الوجوه المجتمعية البارزة فيها، وهما المر بن حريز وحميد بن عبدالله البسطي، ليقولا للناس ويشيرا إلى شاب ذي طلعة بهية يقف على مقربة منهما.

هذا رجلكم، وهذا شيخكم، سعيد بن مكتوم الذي سيراعي الله في حقوقكم ويساوي بين الناس بالعدالة، فهلمّوا إلى مبايعته.. فتزاحمت الخلائق المجتمعة تبايع سعيد بن مكتوم لأنهم أدركوا أن الشيخ «سعيد» تتركز في سيرته المبادئ الخلقية العالية، تلك المبادئ التي ورثها سعيد بن مكتوم عن أبيه مكتوم بن حشر، وأورثها سعيد بدوره إلى ابنه راشد بن سعيد، إلى أن جاءت إلى محمد بن راشد، الرجل الذي تتحدث الدنيا اليوم عن مآثره وأسلوبه في الإدارة.

ولقد أدرك الشيخ مكتوم بن راشد، رحمه الله، الذي تولى الحكم في دبي بين عام 1990 وحتى عام 2006، بثاقب رأي وبصيرة دقيقة أن دبي بما وصلت إليه من تقدم قليلة المثيل في محيط الشرق الأوسط، لا بد أن يتولى زمامها مستقبلاً شخصية قوية الشكيمة وقادرة على مواصلة السير وتخطي العقبات مهما كانت وعرة المسالك، وكانت هذه الشخصية محمد بن راشد، الذي تولى ولاية العهد ثم الحكم في عام 2006، وأجمعت الناس دون منازع على كفاءته الإدارية.

وباستعراض مسيرة الحكام الذين أتينا على ذكرهم، تتضح أمامنا الرؤية أن دبي ازدهرت فيها الحياة الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية بسبب تمسك حكامها بالعروة الوثقى من العدالة والسيرة الحسنة لولاة أمورها وانضباطها الإداري، وأن المبادئ التسعة التي جاءت اليوم في رسالة محمد بن راشد إلى الأمة كانت تمارس في الماضي وازدادت في عهد محمد بن راشد رسوخاً وقوة.

وقد جاء سموه اليوم فيما طرحه على الملأ ليؤكد أن دبي تحت قيادته الرشيدة ماضية في هذا الطريق القويم والمستقيم ولا تحيد عنه مهما كانت الصعاب. وقد أكد ذلك الشيخ محمد بن راشد نفسه بالقول: «أعدكم بأن الأيام لن تزيدنا إلا إصراراً على الخدمة وإبداعاً في العمل».

وباستعراض المبادئ الثمانية أو التسعة التي طرحت في وثيقة الشيخ محمد بن راشد، فإن الدلائل الواضحة تشير إلى أن الشيخ محمد يسعى لكي تصل دبي إلى مستوى المدينة الفاضلة بين مدن العالم المتقدمة.

والمدينة الفاضلة هي البقعة التي شغلت أذهان الفلاسفة والإصلاحيين من الإغريق ومن العرب كإخوان الصفا، إبان النهضة الحضارية التي سادت المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي الأول، عصر هارون الرشيد وعبدالله المأمون، حيث طرحت فكرة المجتمع الفاضل والمكان الفاضل الذي يعيش فيه الناس منعمين وفي رغد من العيش الهانئ معنوياً ومادياً.. وبهذا السعي الإنساني الراقي، وبهذا التفكير الإبداعي الخلاق، ينضم الشيخ محمد بن راشد إلى صفوف الرواد الأوائل في التاريخ الإنساني الذين سعوا سعياً غير متوانٍ نحو تحقيق حياة تسير من حسن إلى حسن، بعيدة عما يكدّر الصفو.

 

 

Email