الدولة والمؤسسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألني محاسب مالي يعمل في إحدى وزارات الثقافة العربية السؤال الآتي:

دكتور، بما أنك زرت بلداناً كثيرة، أتنصحني أن أعمل في مركزنا الثقافي في صنعاء أم في مدريد؟

فأجبته: بما أنك محاسب، فالأمر متوقف على تقديرك لما ستوفره من راتب، وعلى حبك للمكان ولأنك لا تعرف الإسبانية فخير لك أن تذهب إلى حيث لغتك.

لكنه قال لي: أنا لست ذاهباً بوصفي محاسباً، بل مديراً للمركز في صنعاء، وأميناً للمكتبة في مدريد. وللقصة بقية لا أريد أن أثقل القارئ بسردها.

مؤسسة وزارة الثقافة توفد محاسباً مالياً لا علاقة له بالأدب والفكر والفن وصنوف الثقافة الأخرى ليكون مسؤولاً عن مؤسسة ثقافية أقامتها الدولة لنشر حياتها الثقافية في الخارج. إنها ظاهرة موت المؤسسة في بلدان عربية كثيرة.

ليس هناك من دولة اليوم، ولا في الماضي، تقوم أو قامت خارج فكرة المؤسسة. والتعريف الفلسفي المجرد للمؤسسة هي السلطة التي تنظم علاقات الناس وحياتهم داخل الدولة، وتنظم علاقات الدولة بدول أخرى.

إذاً هي أداة تنظيم وخدمة، تهدف إلى تحقيق الاستقرار، والحيلولة دون تفشي الفوضى بين الناس، وحماية المجتمع من النزعات العنفية الخارقة لقوانين المؤسسة.

والحق أن المشكلة التي تعاني منها أغلب المجتمعات العربية لا تقوم في غياب المؤسسة، بل في غياب سلطتها وفاعليتها أو انحرافها عن الهدف الذي تضطلع به. المؤسسة بوصفها أداة تنظيم كما قلنا تفترض صورة بيروقراطية لسلوكها، والبيروقراطية هنا ليست مثلباً، بل هي روح المؤسسة، أي الالتزام بالقانون.

فالجيش مثلاً، إحدى أهم مؤسسات الدول، والتي تضطلع بحماية سيادة الدولة من أي خطر خارجي، وهي مؤسسة تتسم بالأصل بالانضباط الشديد والالتزام بسلطة الدولة وأوامرها.

وفي العالم الثالث عموماً، وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، قامت هذه المؤسسة بخرق الأهداف التي من أجلها ولدت هذه المؤسسة. وقامت بالانقلابات العسكرية لاستلام السلطة، وكونت دولة الغلبة الدكتاتورية، وما تولد عنها بتحطيم روح المؤسسات جميعها.

وصارت النخبة العسكرية وولاءاتها خارقة لكل قوانين المؤسسات عبر تدخلها في الصغيرة والكبيرة من شؤون المجتمع المدني، وأشاعت روح العنف والفوضى في المجتمع كله. وإذا شاهدت جيوش بعض دول العرب وهي تطلق الرصاص على المواطنين السلميين العزل، أدركت إلى أي مستوى من الكارثة نحن نعيش.

وقس على ذلك مؤسسة القضاء، وهي المؤسسة المحافظة على الحق والالتزام بالقانون، وبيدها قانون العقوبات للحيلولة دون تفشي ظاهرة خرق القانون.

ولك أن تتخيل، أيها القارئ العزيز، حالة المجتمع وأفراده إذا فسدت مؤسسة القضاء. وأصبحت السلطة التنفيذية والمؤسسة الأمنية متحكمة بأحكامه، وقضاته. ولك أن تنظر إلى الفوضى الناتجة الآن عن حالة أخذ الحق باليد، ودون اللجوء إلى القضاء.

وأي كارثة تحل بالمجتمع إذا ما انهارت المؤسسة الأهم في إنتاج النخب، من كل أنواع النخب الإدارية والمهنية والفكرية والعلمية والأدبية...، ألا وهي المؤسسة الجامعية.

لقد عشت في الجامعة طالباً أربع سنوات، وأستاذاً ثلاثة وثلاثين عاماً، زرت فيها جامعات عربية كثيرة، ورأيت بأم عيني عملية تحطيم هذه المؤسسة الأكاديمية في بعض الدول العربية، وهي التي تشكل العقل.

وأستطيع أن أستمر في سرد عملية تحطيم عمل المؤسسات لمدة طويلة، وكيف حطمت السلطات الدكتاتورية الفاسدة روح المؤسسة.

زبدة القول، إن دولة بلا مؤسسات فاعلة صارمة في عملها ليست دولة أبداً.

وإن سلطة دولة تقوم بتحطيم المؤسسة هي سلطة معادية للمجتمع، بل هي أخطر على المجتمع من عدوان خارجي.

أما عن حال مؤسسات المجتمع المدني فالحديث يحتاج إلى وقت آخر.

كاتب فلسطيني

 

Email