«الكُمون الاستراتيجي» يخدم التنمية في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال العقدين الأخيرين انتقل أكثر من مليار من البشر من الفقر إلى اليسر في الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى؛ وكانت الأغلبية الساحقة من دولتين: الصين والهند.

وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن أحوال العالم أفضل الآن عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون حيث ارتفعت مستويات المعيشة في دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة، والأوبئة. ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العلمية والتكنولوجية، وتزايد الثروات في الدول، والأهم من هذا وذاك، تراجع الصراعات الدولية والحروب الأهلية.

كل ذلك لم يكن ممكناً حدوثه لولا أن الغالبية من دول العالم أصبحت تسعى إلى التقدم والتنمية، وحدث ذلك من خلال حشد وتعبئة الاستثمارات الداخلية والخارجية وراء تحقيق تراكم رأسمالي يسمح للدولة بتحقيق معدلات عالية للنمو تنقلها من صفوف الدول النامية إلى تلك المتقدمة.

ولكن واحدا من أهم شروط هذه النقلة الكيفية هو السير في طريق «الكمون الاستراتيجي» بمعنى أن تتجنب الدولة الدخول في صراعات خارجية، وأن تجعل سياستها في الخارج أداة في الحصول على الاستثمارات.

وأذكر خلال زيارتين شاركت فيهما في بعثتين صحفيتين للصين في عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٢ قامت بهما مؤسسة الأهرام أن الزعماء في الدولة الصينية كانوا يقاومون بشدة أمرين: أولهما أن الصين دولة متقدمة، فكان الإصرار هو على أنها دولة من دول العالم الثالث الفقيرة التي ينبغي معاملتها في المحافل الاقتصادية الدولية على هذا الأساس؛ وثانيهما أن الصين لا تسعى إلى أن تكون قوة عظمى؛ ورغم مشاكلها الإقليمية الكثيرة فإنها تسعى لحلها بالطرق السلمية كما فعلت مع قضايا هونغ كونغ وتايوان ومشكلات الحدود والنزاعات على الجزر. لم يكن أحد يتحدث لا عن الدور الإقليمي للصين، ولا عن الدور العالمي.

ولكن الصين ليست المثال الوحيد، فلا اليابان، ولا كوريا الجنوبية، ولا البرازيل حتى حكمها اليسار، كان لهم دور دولي مؤثر؛ واقتصرت الأدوار الإقليمية لهذه الدول على تلك المتعلقة بالتعاون، ولم تقرر دول «آسيان» التي تقدمت أن تفعل أكثر من الحديث عن «الأمن الإقليمي» في لقاءات أكاديمية.

وفي هذه الحالات كانت الدول تمارس حالة من «الكمون» الذي بمقتضاه تركز الدولة تماماً على عمليات البناء الداخلي، وتتجنب قدر الإمكان المناوشات والمشاغبات والتورطات الخارجية، وإذا كان لابد مما ليس منه بد فإنها تقوم بالحد الأدنى الممكن وسط الظروف الدولية الصعبة.

مصر على العكس خلال تاريخها فيما بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت «الفتح الاستراتيجي» الذي يتيح لها علاقات إقليمية ودولية متميزة، فساهمت في إنشاء جامعة الدول العربية، ودخلت حرب فلسطين الأولى رغم التحفظات في مجلس الشيوخ والوزراء، وهي الحرب والتي كانت بداية حرب امتدت إلى أخريات (١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٦٩/‏١٩٧٠، ١٩٧٣) مضافاً لها حربا في اليمن، والتورط في عدد من الصراعات الإفريقية.

كان لهذه المرحلة بحلوها ومرها ظروفها الخاصة والتي يستحسن تركها للمؤرخين، ولكن الأمر الهام هنا أن التركيز الداخلي على بناء الدولة فقد الكثير من قوة الدفع والعنفوان، بل ونمت مدرسة كاملة في السياسة الخارجية المصرية قوامها أن «الفتح الاستراتيجي» يدعم عملية التنمية المصرية، بما حصلت عليه مصر من منح ومعونات ومكانة في النظام الإقليمي والدولي.

الآن فإن مصر دخلت مرحلة جديدة في سياساتها الخارجية وحماية أمنها القومي تبدأ من حقيقة أن البناء الداخلي هو حجر الأساس في حماية مصر وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في تعبئة البيئة الخارجية لدعم الداخل المصري.

والحقيقة الثانية أن التركيز على البناء يواكبه سياسات خارجية تقوم على التعاون والحد الأدنى من الاشتباك فتحافظ على اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتدير قضية المياه مع إثيوبيا بحيث لا تقود إلى صراع وإنما إلي عمل مشترك، وإذا كان ضرورياً كما هو الحال مع ليبيا فإن القوات المسلحة تستخدم بحزم وحساب ولإرسال الرسائل أن مصر قادرة على استخدام القوة عندما تقتضي الحالة. هنا فإننا نجد الحركة المصرية النشطة تقتصر على الحدود المباشرة لمصر مع فلسطين وإسرائيل في الشمال الشرقي، ومع ليبيا في الغرب، ومع السودان وإثيوبيا وإرتيريا في الجنوب.

هذه كلها تمثل القضايا المباشرة التي تتعلق بالأمن القومي المصري، وفيما عداها فإنها تلتصق مباشرة بعمليات البناء الداخلي، ومن ثم كانت هناك اتفاقيات تخطيط الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية التي فتحت أولاً أبواب الاستغلال المصري للمنطقة الاقتصادية الخاصة بها في البحر الأحمر؛ وثانياً أبواب تعمير سيناء؛ كما كانت اتفاقية تخطيط الحدود البحرية مع قبرص التي قادت إلى تنمية حقلي «ظهر» و«نور» للغاز، والتعاون في منطقة شرق البحر المتوسط في نقل وتسييل وتصنيع الغاز على الأرض المصرية. وإذا أخذنا كل ذلك مع تنمية إقليم قناة السويس فإن مصر تصير مركزاً إقليمياً للطاقة.

«الكمون الاستراتيجي» المصري خلال مرحلة البناء الراهنة يعطي الفرصة لمصر لم تتوفر لها خلال عقود ماضية حيث كانت العيون على الخارج تفقد الداخل مركزيته ومحوريته في التفكير الوطني المصري.

 

 

Email