أزمات مفتعلة وحلول شيطانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخبار الاستيطان اليهودي الزاحف على أراضي القدس الشرقية، بأساليب ووسائل جهنمية متعددة العناوين، أضحت من طقوس الحياة اليومية للفلسطينيين وعموم المعنيين بمصير زهرة المدائن.

وبالتوازي مع الشؤم الذي تحمله هذه الأخبار نحسب أن الصهاينة، داخل إسرائيل وخارجها، اعتادوا بدورهم على سماع معزوفة الاستنكار والشجب والتنديد والوعيد؛ التي تلي كل فعلة مشينة يعبثون بها في أحشاء المدينة وضواحيها ويقضمون شيئاً من رحابها.

بينما تتوالى مشاهد هذا السيناريو المقيت من الحراك الصهيوني المنظور على الأرض وردود أفعاله الخارجية الكلامية عبر الأثير، تبدو القدس بجوهرها التاريخي الحضاري العربي المسيحي كجسد يعجف ويشحب؛ بوتيرة يظنها البعض هينة وهي عظيمة.

ضمن مخططاته لتفريغ القدس من مكونها البشري الأصلي وإبداله بحشوات من معشر اليهود، يعمد صانع القرار الإسرائيلي إلى حشر المقدسيين في زوايا شديدة الضيق، تجعل حيواتهم كداً ونكداً وضيقاً إلى حد الاختناق. ثم إنه يتولى بذاته التلويح لهم بالحلول والمخارج؛ التي من شأنها تنفيذ مراداته في التخلّص منهم.

مؤخراً، كشفت مصادر فلسطينية النقاب عن اجتراح الإسرائيليين لإجراءين أفعوانيين، يجسدان حرفياً هذه المعاني. الإجراء الأول، عرض تقدمه مؤسسات قانونية إسرائيلية لمد يد المساعدة المجانية لمن أراد الحصول من المقدسيين على الجنسية الإسرائيلية.

ما يفضي إلى تجريدهم من جنسيتهم الفلسطينية بلا رجعة لأن «القانون يلزم المتراجعين عن الجنسية الإسرائيلية بسحب إقامتهم في القدس وإبعادهم كلياً من البلاد». ولنا أن نتصور أي إغراء تمثله هذه الخطوة، في ضوء الضغوطات الجبارة التي تمارس على كل تفصيلات حياة الفلسطينيين في المدينة.

هذا في ظاهر الحال؛ لكن تنسيب المقدسيين إلى إسرائيل بتحويلهم إلى إسرائيليين، ليس عملاً تطوعياً منصفاً إنسانياً أو أخلاقياً أو حقوقياً على الإطلاق؛ وإنما هو محاولة لإلغاء هويتهم الحضارية والسياسية، وقطع صلاتهم مع أرومتهم القومية والوطنية، ثم حشرهم في مربع التمييز العنصري وفقا لقانون القومية اليهودية حديث الإنجاز.

وهذا ينقلهم من خانة الخضوع لسيطرة إسرائيل كجزء من الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال ويراد «تطفيشه» من أولي القبلتين، إلى خانة الإذعان لسيطرة الصهاينة اليهود أصحاب الأمر والنهي داخل إسرائيل على غير اليهود وإن كانوا إسرائيليين.

الإجراء الثاني، إعلانات تروج لها شركات استثمارية إسرائيلية على أوسع نطاق، عن منح قروض مالية كبيرة للمقدسيين؛ وذلك لقاء رهن ممتلكاتهم سواء كانت بيوتاً أم عقارات أم أراضي.

بقليل من التحري، بات معلوماً أن هؤلاء المعلنين وشركاتهم ينتمون إلى جماعات الاستيطان؛ التي تعمل على أعين وزارتي الداخلية والدفاع الإسرائيليتين. ومن نافلة القول إن هذا الإجراء يحاكي سابقه في كونه يحمل في ظاهره الرحمة ويبطن العذاب وينذر بالبؤس.

إذ لا يصعب عن الجهات المقرضة إيقاع المقترضين، لأغراض التجارة أو بناء البيوت أو التعليم أو الزواج، أو نحو ذلك مما يمثل انفراجة في أجواء الفقر والضيق الاقتصادي الذي ألحقه الاحتلال بالمقدسيين، في أحابيل الديون المتراكمة، ثم الاستيلاء على رهوناتهم وتجريدهم من أسباب الاستعصام بالمدينة، وتسهيل اقتلاعهم وتهجيرهم منها.

المفارقة هنا، أن هذين الإجراءين ليسا مستحدثين، لأنهما يعيدان تسويق بضاعة قديمة في قوارير جديدة. فقد سبق أن عمل بهما تحالف الانتداب (الاستعمار) البريطاني مع الحركة الصهيونية، بين منتصفي عشرينيات القرن الماضي وأربعينياته.

وقت أن كان التضييق والافقار الاقتصاديان وسيلة لإكراه سواد أبناء الشعب الفلسطيني على مغادرة بلادهم، والبحث عن ملاذات وملاجئ خارجها في عوالم الآخرين بالجوارين القريب أو البعيد.

وقد يكون من المدهش في سياق هذه المقاربة المكرورة، أن إسرائيلي اليوم لم يعوا درس أسلافهم؛ الذين فشلوا في تحقيق أهدافهم، ولم ينجزوها إلا باستخدام القوة العارية عام 1948 وما تلاه من حروب عدوانية مسلحة.

اللافت أيضاً، أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، تكاد من جانبها تلجأ إلى بعض الآليات التي اشتقها الأجداد والآباء لمقاومة التهويد. ومن ذلك راهنا تحذير المقدسيين من فخاخ الجنسية الإسرائيلية المسمومة، والاقتراض من جهات التمويل الإسرائيلية المشبوهة.

وهذه لعمرك أدوات تفعل فعلها على مستوى الوعي؛ بيد أنها تظل بحاجة إلى ما يردفها ويعزز فاعليتها عملياً، بما يثبت أقدام المقدسيين ويجعلهم يمكثون بجذورهم في الأرض. وهذا أمر ليس بعزيز إذا علمنا مدى صلابة هذه الشريحة وطاقة احتمالها؛ التي تصنع المعجزات بأقل القليل من موارد الدعم العيني.

 

 

Email