استنباط الحلول بالنقاش المنهجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما حاول الأميركيون في الحرب العالمية الثانية قياس وقع «بروباغندا» أكاذيب النظام الألماني النازي على الناس لم يجروا دراسة مسحية، أو بالأحرى لم يستعينوا باستبيانات تقليدية، بل عقدوا ما يسمى مجموعة التركيز focus group أو مجموعة نقاشية مركزة لفهم مدى تأثير البرامج الإذاعية المناوئة لنظام هتلر. فخرج باحثان باستنباطات عميقة ومعلومات غنية كشفت ما كان خافياً في السابق من حقيقة تأثير هذه البرامج على الجمهور.

ويروى أن تلك المحاولة التي قام بها كل من «بول لازاردفلد» و«روبرت ميرتون» من قسم الدراسات الإذاعية في جامعة كولومبيا العريقة عام 1941 تعد من أوائل محاولات الأميركيين معرفة أبعاد الوسائل الإعلامية إبان الحرب العالمية. ولو عقدت في عصرنا لرأينا ما يندى له الجبين مما تبثه القنوات الإعلامية من أكاذيب فجة.

ومع أن مجموعة التركيز النقاشية هي فكرة أذاع صيتها الأميركان، إلا أن «القارة العجوز» استفادت منها في أوروبا، حيث كانت وراء انطلاق أكبر طائرة في عصرنا بل في تاريخ البشرية وهي إيرباص A380 العملاقة ذات الطابقين.

إذاً، حينما يجتمع عينة منتقاة من المشاركين عددهم لا يتجاوز 12 شخصاً، ويقودهم مدير جلسة محترف، ومراقبون حَضَّروا جيداً لتلك الحلقة النقاشية الممنهجة، فإنها ستخرج بمعلومات قيّمة، قد لا تقدمها كثير من الدراسات الكمية التي توزع فيها الاستبانات.

ورغم أن هذه الحلقات النقاشية قد توقفت ردحاً من الزمن، إلا أن العلماء ومتخذي القرار قد عادوا إليها مجدداً، بعد انتعاش وسائلها، وظهور فائدتها لفهم السلوك البشري. فهي تتعمّق في انطباعات أفراد تجمعهم اهتمامات مشتركة نحو قضية مهمة أو خدمة أو سلعة أو قرار مصيري جديد أو قائم يحاول المسؤولون تدارك مثالبه بفهم تداعياته على الناس.

مثل انتقاء مجموعة من سكان المنازل الحكومية يمثلون عينة ديموغرافية من مجتمعهم ليتحدثوا بمنهجية نحددها لهم عن تجاربهم بكل صراحة. فيرصد المراقبون كل الحوارات ويصنفونها ويحللونها ليخرجوا بنتائج لمتخذي القرار.

وجلسات النقاش تلك ليست أحاديث مرسلة، بل تقيدها معايير ضابطة منها مثلاً آلية تحد من محاولات انحياز المنظمين. وفيها ضوابط تجنب المجتمعين النقاش العقيم أو السطحي. ولذا يتم تدوين أو تسجيل بعض اللقاءات ليمكن تفريغها بطريقة علمية، بحيث تقدم نتائجها الجوهرية لمتخذي القرارات.

هناك اعتقاد شائع عند المسؤولين، بأن بناء القرارات على الدراسات هو في حد ذاته يغني عن الاستشارات الجماعية. غير أن العلم والتفكير العقلي قد تطوّرا وكذلك أدواتهما. ولذا قيل: «ما خاب من استشار». فعبر تلك النقاشات المنظمة تستنبط الحلول الخلّاقة، وليس عبر الأحاديث العاطفية أو المتسرعة.

* كاتب كويتي

 

Email