حروبهم العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بلغ عدد الذين شاركوا في القتال الفعلي على مختلف جبهات ما عرف بالحرب العالمية الأولى نحو 70 مليون جندي، كان منهم 60 مليوناً من الأوروبيين. وباستثناء الدولة العثمانية واليابان، كانت كل القوى المنخرطة في القتال تنتمي في أصلها وفصلها إلى دائرة الحضارة الغربية، ولا سيما شقيها الأوروبي والأميركي على جانبي الأطلسي.

من عوالم جنوب المعمورة، قاتل في معارك تلك الحرب نحو ثلاثة ملايين مجند، كان منهم نحو 2.5 مليون من المسلمين، لكن هذه المساهمة جرت بدورها تحت رعاية العواصم الغربية، وبتوجيه وتحكم من قواعدها وقياداتها العسكرية الاستعمارية في الهند وغرب آسيا وجنوب روسيا ومناطق أفريقيا العربية وغير العربية.

عند استحضار دواعي تلك الحرب وأسبابها الظاهرة والخفية، حدث ولا حرج عن تناطح الأطماع الاقتصادية والأهداف التوسعية الجغرافية والسياسية والاستراتيجية الأمنية الموصولة بمصادر الثروات، وتفشي الخلفيات الفكرية العنصرية الاستعلائية والضغائن القومية، بين تلك العواصم تجاه بعضها البعض ومنها تجاه بقية شعوب العالم.

هذا في حين لم يكن للآخرين خارج حوزة الغرب عموماً؛ الذين سيقوا مع أوطانهم إلى قتال دام لا ناقة لهم فيه ولا جمل، أي طموحات تذكر غير الحياة المستقرة الآمنة، والانعتاق من ربقة تكاسر الأقوياء على حطام الدنيا، إلى فضاءات الاستقلال الثقافي والاقتصادي والسياسي والحرية الحقة.

هذا التباين الصارخ بين أهواء المتحاربين والمتنافسين الكبار في الشمال، وبين نوازع من أكرهوا على الوقوع في ميادين الحرب والاكتواء بنيرانها في الجنوب، ينبغي أن يكون مفهوماً تماماً من متابعة الكيفية التي تم بها استدراج أمة العرب إلى تلك المعمعة، فقد كان إسداء وعود الحرية والاستقلال والوحدة والسيادة لهذه الأمة، من جانب معسكر الحلفاء وأنصارهم بزعامة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، عاملاً حاسماً في اتخاذ قرار المشاركة العربية.

وقد علمنا لاحقاً أن أطراف ذلك المعسكر كانوا يضمرون غير ما يعلنون، بحيث فاوضوا العرب على استقلالهم في ما عرف بمراسلات حسين - مكماهون، وتفاوضوا بالتوازي والتزامن بين بعضهم البعض على استعمار الرحاب العربية، كما فاوضوا الصهاينة ووعدوهم، عن طريق بلفور وزير خارجية بريطانيا، بتمليكهم جزءاً ثميناً من أرض العرب اسمه فلسطين.

ومن سياق هذه المقاربات السرية والعلنية المتعارضة، نتأكد أن أصحابها جعلوا كل التعاملات الدولية قابلة للخداع والتمويه، فالحرب خدعة والاتفاقات والمعاهدات خدعة والمراسلات خدعة والتقافز بين أنماط التحالفات والعداوات خدعة.

بالتأمل في مجريات الحرب الأولى لجهة الأسباب والمقدمات والمشاركين والنتائج والتداعيات، نتأكد أنها في جوهرها كانت غربية؛ أوروبية أساساً، وأنها ما أخذت صفة العالمية إلا عملاً بمقولة: إن الأقوياء والمنتصرين ينتجون أفكارهم ومفاهيمهم ومصطلحاتهم وتواريخهم وبضائعهم، ثم يبثونها ويسعون إلى عولمتها وفرضها على الناس أجمعين.

غداة سكوت مدافع تلك الحرب الغربية الطاحنة الأولى، لم يصبح العالم أكثر أمناً وسلماً من ذي قبل، ولا صار أكثر إنسانية وانحيازاً للضوابط القانونية والتنظيمات الساهرة عليها؛ التي تم إبداعها بشق الأنفس. وفي رحم الاتفاقات الإذعانية التي فرضها المنتصرون عنوة على المهزومين، نمت أسباب حرب ثانية؛ ولدت بعد عشرين عاماً فقط وكانت أكثر شراسة وفتكاً، حتى إن ميادينها كانت أكثر اتساعاً وكان ضحاياها ضعف ضحايا سابقتها.

الثابت في كل حال أن العرب باؤوا من حصيلة الحربين بخسارات بينة، فبعد الأولى تكالبت عليهم القوى الأوروبية الاستعمارية، وقطعت أوصال وطنهم الكبير، وجزأته وتقاسمته في ما بينها تحت عنوان مبتكر مراوغ يدعى الانتداب.

وبعد الثانية، استكملت عملية انتزاع فلسطين وتخصيصها للصهاينة، بما أودى إلى نكبة الشعب الفلسطيني الممتدة حتى اللحظة. وفي التحليل النهائي، ربما كانت الحركة الصهيونية وكيانها السياسي إسرائيل، أكثر الخلق استفادة من تلك الحصيلة.

في كل حال يظل العرب أولى من غيرهم في دارسة وقائع الحرب «العالمية» الأولى، باعتبار أنهم ما زالوا يعيشون تحت تأثير بعض أهم توابعها، ليس ذلك فقط لأنها أسست للصراع الممتد بينهم وبين الصهاينة وكيانهم السياسي، وإنما لكونها أيضاً وضعت بذور منازعات حدودية وسياسية واجتماعية وثقافية بين بعضهم البعض.

Email