تحليل سياسي

مئة عام على الحرب العالمية الأولى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الساعة الحادية عشرة، مساء اليوم الحادي عشر، من الشهر رقم 11 - شهر نوفمبر - سنة 1918، هذا هو الوقت الذي انتهت فيه الحرب العالمية الأولى.

في هذه اللحظة سكتت المدافع. لم يطلق الجنود الرصاص فرحاً، لأنهم بعد أربع سنوات من الحرب المتصلة، كانوا قد كرهوا صوت الرصاص، ويتشوقون لليالي هادئة، يسمعون فيها الموسيقى، وأياماً صاخبة يملؤونها ضحكاً، بدلاً من ضجيج دانات المدافع وزخات الرصاص وفرقعات الألغام. لم يحتفل الجنود في ميادين القتال بالنصر، فالنصر أو الهزيمة لم تعد أشياء مهمة، فالمهم الوحيد هو انتهاء هذا الجحيم.

بدأت الحرب يوم الثامن والعشرين من يوليو 1914، واستمرت طوال السنوات الأربع التالية. سبعون مليوناً هو عدد جنود الجيوش التي تمت تعبئتها للقتال في هذه الحرب، أما عدد ضحاياها من العسكريين والمدنيين، فبلغ أكثر من ستة عشر مليوناً من القتلى.

الصدمة الحقيقية هي أن كل هؤلاء الضحايا لم يفقدوا حياتهم دفاعاً عن حق أو قيمة سامية، فهل كان الحق في جانب الألمان أم الفرنسيين؟ وهل يستحق إقليم الألزاس المتنازع عليه بين الدولتين كل هذه الكلفة؟ الحرب العالمية الأولى، هي حرب عبثية بكل معنى الكلمة، اشتعلت نتيجة الاستكبار والعناد والأفكار المزروعة في عقول القادة، وليس دفاعاً عن أي قيمة عليا، لا يمكن التفاوض بشأنها.

لم يخطط أحد لشن حرب على هذا النطاق وبهذا الحجم، لكن جميع الأطراف انزلقوا إلى الحرب دون قصد، وظلت أقدامهم تغوص أكثر وأكثر في مستنقع الوحل هذا، حتى فات وقت التراجع. كانت البداية عندما قام أحد القوميين الصرب باغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية في سراييفو عاصمة البوسنة، التي كانت وقتها تابعة للنمسا.

وضعت النمسا اللوم على صربيا، بسبب حملة التحريض القومي المطالبة بضم البوسنة لمملكة صربيا. فشلت محاولات نزع فتيل الأزمة، وانتهى الأمر بقيام النمسا بقصف بلغراد عاصمة صربيا، بعد شهر واحد من واقعة الاغتيال. أعلنت روسيا التعبئة العامة لجيوشها دفاعاً عن حليفتها صربيا. التعبئة الروسية أزعجت الألمان، الذين هالهم أن يجدوا الملايين من الجنود الروس وقد اتخذوا وضعاً هجومياً بالقرب من حدودهم، فأعلنت ألمانيا في الأول من أغسطس، الحرب على روسيا.

فيما أعلنت فرنسا في اليوم التالي، التعبئة العامة، مساندة لحليفتها روسيا. أعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا في الثالث من أغسطس، واجتاحت بلجيكا، لتستخدمها ممراً للهجوم على فرنسا. كان هناك حلف دفاعي يربط بريطانيا ببلجيكا منذ عدة عقود، وتنفيذاً لبنوده، أعلنت بريطانيا في الرابع من أغسطس، دخول الحرب ضد ألمانيا.

كانت أحجار الدومينو تتساقط واحدة وراء الأخرى من تلقاء نفسها، دون سيطرة أو تخطيط. كان المشهد جنونياً بامتياز، فالقوى الصناعية والعسكرية الأكبر في العالم، حشدت الملايين من الجنود إلى جبهات القتال، دون مبرر كافٍ. دخلت القوى الكبرى الحرب دفاعاً عن حلفاء صغار، روسيا دفاعاً عن صربيا، وألمانيا دفاعاً عن النمسا، فوجدت نفسها قبل أن تدري في حرب مع قوى كبرى لم تَسْعَ لحربها. الدرس هنا، هو ألا تترك التزاماتك تجاه الحلفاء الصغار، تحدد خطوتك التالية، وإلا فقدت استقلالك، وتحولت إلى بندقية مستأجرة لصالح قوة صغيرة، تدير سياساتها الخارجية بعشوائية واندفاع.

كانت الحرب العالمية الأولى، مذبحة على نطاق لم تشهده البشرية من قبل، والسبب في ذلك، هو التقدم الهائل في تكنولوجيا صناعة السلاح. فبعد دخول العالم عصر الثورة الصناعية، أصبحت الأسلحة أبعد مدى، وأكثر دقة، وذات قوة نيران أكبر.

كانت الحرب العالمية الأولى، هي المرة الأولى التي تظهر فيها الدبابة والطائرة كأدوات قتال، فلم تعد الحرب مقصورة على ما يجري في ميادين القتال، فالطائرات والدبابات والمدفعية العملاقة، لديها القدرة على نقل الحرب إلى ما وراء الجبهات، مستهدفة المدن وخطوط المواصلات والأهداف الحيوية البعيدة عن الجبهة. الدرس هنا، هو أن حروب العصر الصناعي، ليست مثل الحروب التي سبقته، ومن الأفضل للعالم ألا يدخل في مثل هذه الحروب. مع هذا، فإن نفس الدول الكبرى، دخلت الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عاماً من نهاية الحرب العالمية الأولى، ولولا أن السلاح النووي قد تم تطويره واستخدامه في الأيام الأخيرة للحرب الثانية، لربما كان العالم قد دخل حرباً عالمية ثالثة، بعد بضع سنوات من انتهاء سابقتها.

وقعت الحرب العالمية الأولى في وقت، لم يكن أحد يتوقع حدوثها فيه. أنهت الحرب العالمية الأولى مئة عام من السلام في القارة الأوروبية، فمنذ انتهاء حروب نابليون في القارة العجوز، لم تشهد أوروبا سوى صراعات عسكرية متفرقة، أمكن احتواء آثارها بسرعة. السلام الممتد، وتقدم الصناعة وحرية التجارة، كل هذا ساهم في تحويل أوروبا إلى كومونولث كبير، تتحرك فيه البضائع والاستثمارات والناس بحرية عبر الحدود، مولّدة ثراء غير مسبوق، ورفاهية لم يحلم بها أكثر المتفائلين.

من هو ذلك المجنون الذي يضحي بكل هذه الرفاهية، من أجل كسبٍ عسكريٍ واهٍ هكذا تحدّث الليبراليون الأوروبيون في مطلع القرن العشرين، لكن الحرب نشبت، ولم تنجح التجارة والاستثمارات والرفاهية في منعها، والدرس هو: الحرب قد تنشب في أي وقت، ومن الأفضل أن تكون مستعداً لها، عن أن تفاجئك وأنت في غفلة.

Ⅶ كاتب ومحلل سياسي

Email