بصمات أنجيلا ميركل

ت + ت - الحجم الطبيعي

بشكل مباغت، أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنها ستتخلى وشيكاً عن رئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي؛ الذي تترأسه منذ 18 عاماً، لكنها ستكمل مدة ولايتها في منصب المستشارية التي تنتهي عام 2021، قبل أن تنسحب كلياً من عالم السياسة.قوبل هذا الموقف بعاصفة من ردود الأفعال التي تعدت الأوساط السياسية والشعبية الألمانية إلى الرحاب الأوروبية بعامة.

فالبعض رأى أن ميركل ستغادر حزبها بعيد انحدار شعبيته، وهذا وقت مناسب كي يعيد خليفتها التجديد وترتيب الأوراق، وتكون هي قد بدت كزعيمة فاعلة وليست مدفوعة للفعل. وقال فريق ثانٍ إن زمنها قد ولّى، وإنها تبحث عن مخرج مشرف من الحياة السياسية، ومن المشكوك فيه أن تبقى في سدة المستشارية؛ التي تبوأتها منذ عام 2005، وفقاً لما خططت.

ونحسب أن هذا التصور يستحوذ على قدر كبير من الصواب والأرجحية. فمن الصعوبة بمكان أن يحتفظ قائد سياسي ما في المجتمعات الليبرالية بطاقة واسعة للحركة والنفوذ، على المستويين الداخلي والخارجي، بين يدي حالة من الوهن في قاعدته الحزبية الضيقة.

وذهب فريق ثالث إلى أن توجه ميركل تعبير آخر عن الانهيار السياسي الذي يجتاح الغرب؛ يضاف إلى تعبيرات أخرى، كالمنافسات يكسب فيها المتطرفون وقوى التشدد اليميني أرضيات بحيثية متزايدة، وارتداد قطاعات شعبية على جانبي الأطلسي إلى الأصوليات والأفكار الشوفينية الشعبوية ضيقة الأفق.

من جماع هذه الردود المرحبة بقرار ميركل والحزينة تجاهه والوجلة المتوجسة من أسبابه وتداعياته، قومياً وأوروبياً وغربياً وربما دولياً أيضاً، نتأكد أننا بصدد زعيمة تنتمي إلى طائفة الشخصيات القيادية الكارزمية واسعة الإشعاع والتأثير.

وأن الألقاب والمسميات التي حازت عليها، مثل زعيمة العالم الحر، والحاكمة المتنفذة للاتحاد الأوروبي، وأقوى شخصية في العالم، وآخر المدافعين عن الغرب الليبرالي، لم تكن بلا مغزى ولا كانت مجرد شعارات صحفية جوفاء. وأغلب الظن أن السياقين الألماني من جهة والأوروبي الاتحادي من جهة ثانية، لن يكونا بعد ترجّل هذه السيدة كما كانا أثناء حيويتها القيادية.

على الصعيد الأوروبي بالذات، لا تعد ميركل من جيل المؤسسين للمنظومة الاتحادية.. ففي العام الذي ولدت فيه (1954) كانت، هذه المنظومة قد تحركت بالفعل بجهود بذلها بقوة الفرنسيون جان مونيه وروبير شومان والألماني كونراد أديناور.

ويوم صعد نجمها السياسي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته، كانت الفكرة الاتحادية وأذرعها التطبيقية، قد اشتد عودها وأضحت قوة يعتد بها دولياً، اقتصادياً بالدرجة الأولى وسياسياً وأمنياً بمعدلات أقل. هي عاصرت إذا وعاينت الحلم الوحدوي وهو يتحقق في وطنها الألماني الأم، ويتمدد في طول القارة الأوروبية وعرضها من 6 دول مؤسسة إلى 27 دولة.

غير أنه قدر لميركل أن تقود القاطرة الاتحادية في العقد الأخير، تحت ضغوطات وتحديات عاتية. كالأزمة الاقتصادية في بعض دول الاتحاد وفي طليعتها اليونان، والأعباء المالية المتأتية عن التحاق دول الشرق غير المؤهلة للانخراط العاجل في الدولاب الاقتصادي لغرب القارة، وحشود المهاجرين واللاجئين من عوالم الجنوب، وتفشي النزعات والتيارات الانفصالية المجافية للاتجاه الاتحادي، التي بلغت ذروتها بخروج قطب أوروبي ودولي رفيع المكانة والمقام بحجم بريطانيا.. والحق أنها واجهت هذه الرياح بصلابة ورباطة جأش، وأظهرت في هذا الإطار ملكات قيادية استثنائية، وتمكنت غالباً من إقناع مواطنيها في ألمانيا بدفع فواتير كبيرة، لقاء صيانة إرث الآباء المؤسسين للاتحاد.

نلمس قناعة ميركل وإيمانها بأوروبا الموحدة القوية، من طبيعة الأمنيات الواعدة والمستبشرة، التي ما فتئت تبوح بها حتى أثناء ربع ساعتها الأخيرة في قمة السلطة. ومنها تصريحها مؤخراً بأنها تنوي التباحث مع شريكها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول تطوير «اتحاد دفاعي أوروبي» لمواجهة العديد من التحديات السياسية الخارجية.

بهذا التوجه شديد الطموح، الذي تحول دونه عقبات كؤود، تبعث الزعيمة الألمانية برسالة تفاؤل، تعاكس بها تصورات المتشائمين، القائلين إن التجربة الاتحادية الأوروبية تترنح وتسير نحو مصير مقبض.

في كل حال، سيستحيل على أي قراءة تاريخية لمسار هذه التجربة ومصيرها، أن توصف بالموضوعية والإنصاف، إن هي لم تعرض أو تتعرض لدور أنجيلا ميركل الفارق في هذا الإطار. شأنها في ذلك مساهمات أصحاب الهمم والقامات العالية من جيل المؤسسين.

Email