جدل «الهجرة الفلسطينية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

طبقاً لبيانات مركز الإحصاء الفلسطيني، زاد عدد الفلسطينيين من 1.37 مليون نسمة عام 1948 إلى 11.6 مليوناً عام 2012، وفي نهاية العام 2017 بلغ العدد 12.7 مليوناً. وهذا يعني تضاعفهم أكثر من تسع مرات منذ بداية نكبتهم الوطنية.

إحصاءات العام 2012 أكدت أن قوام الشعب الفلسطيني يتوزع مناصفة تماماً بين المقيمين داخل فلسطين التاريخية، بين النهر والبحر، وبين اللاجئين والمشتتين خارجها، بواقع 5.8 ملايين نسمة لكل من الكتلتين. أما إحصاءات العام 2017 فتقول إن الفلسطينيين يتوزعون بمعدل 23.4% في الضفة و15% في قطاع غزة و12.1% في المناطق الخاضعة لإسرائيل منذ 1948؛ فضلاً عن 44% في الدول العربية و5.5% في باقي دول العالم. هذا يعني أن 50.5% من الفلسطينيين يعيشون داخل فلسطين التاريخية، فيما يقيم 49.5% منهم في عوالم اللجوء العربي وغير العربي.

هذه الأرقام التي تحظى بصدقية رفيعة، توحي سريعاً بميل أبناء الشعب الفلسطيني إلى التجذر أكثر في وطنهم الأم. وفي ذلك بيان قوي يقيم الحجة على الزاعمين بأن ثمة اتجاه يشي عموماً بملل الفلسطينيين من حياتهم في الوطن والرغبة في مغادرته، وأن هذا الاتجاه ينمو باطراد خلال العقدين الأخيرين.

بحيث إنه يتعلق بما بين 10 و16 ألف نسمة في العام الواحد. وتتراوح الأسباب في تقديراتهم بين الضجر واليأس جراء تفشي البطالة والفقر، وتأثيرات الحواجز وجدار الفصل الاستيطاني العنصري والضربات العسكرية الإسرائيلية، وتوابع وصول حركة حماس إلى السلطة، وانخفاض حجوم المساعدات الخارجية. وتشمل فئات المغادرين مثقفين وأصحاب رؤوس أموال وتجاراً، وعناصر شبابية غير راضية ومتذمرة من أوضاعها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

على الرغم من هذه الملاحظات، التي يعود معظمها إلى متابعين إسرائيليين، فإن «هجرة» الفلسطينيين لا تشكل ظاهرة تسترعي النظر؛ فالضغوط المصبوبة على رؤوس الفلسطينيين في وطنهم المحتل، كالتي يشير إلى بعضها هؤلاء المتابعون، كان بوسعها أن تفضي إلى عمليات هجرة ولجوء بمعدلات كارثية.

غير أن هذا لم يحدث حتى اللحظة ولا دليل على حدوثه في أي مستقبل منظور، وفي ذلك آية كبرى على صلابة إرادة الاستعصام بالوطن والتعلق به تحت أقسى الظروف. العبرة الأكثر نصوعاً وتجلياً في هذا السياق يمكن أن تستقي وتستشف من قدرة أبناء القدس؛ الذين يتعرضون على مدار الساعة لأعباء ومضايقات وانتهاكات إسرائيلية تنوء بحملها الجبال. ومع ذلك، تراهم محتسبين مرابطين صامدين، محتفظين بوجودهم، بل ومتزايدين في المكان بمعدلات تغيظ إسرائيل.

المدهش حقاً أن هذه الحيثيات المطمئنة تنطبق بحذافيرها وزيادة على الحقائق السكانية الخاصة بقطاع غزة؛ الذي يعاني من ضائقة متعددة الأوجه. فعطفاً علي الإحصاءات الفلسطينية، كانت نسبة أبناء القطاع من الكل الفلسطيني لعام 2012 تبلغ نحو 14.6% (1.7 من 11.6 مليوناً)، وتبلغ نحو 29.3% من مجموع الفلسطينيين المقيمين بين النهر والبحر (1.7 من 5.6 ملايين)؛ لكن هذه النسبة ارتفعت في العام 2017 إلى 15% من الكل الفلسطيني (1.912 من 12.706 مليوناً)، وإلى 29.7% من المنزرعين داخل فلسطين التاريخية (1.912 من 6.417 ملايين).

المفترض أن لغة الأرقام والبيانات الميدانية، تغني عن الأحاديث المرسلة والتقارير القائمة على الحدس والتخمين ودنيا المسامرات. وبدلاً من أن يفرك بعض الصهاينة والإسرائيليين وأشياعهم من المتصهينين أيديهم، طرباً من ظاهرة الهجرة واللجوء الفلسطيني؛ المتفاقمة بزعمهم ولا سيما في غزة، كان الأولى بهم الانشغال بما يدور في كيانهم السياسي من تفاعلات موصولة بالهجرة العكسية. ومن ذلك معطيات الدائرة الإسرائيلية المركزية للإحصاء؛ التي بينت أخيراً أن عدد اليهود المغادرين لإسرائيل أضحى يفوق عدد «العائدين» إليها ببضعة آلاف، وأن ما يقرب من 40% من شريحة الشباب هناك يراودهم هاجس المغادرة إلى الولايات المتحدة وكندا بغير رجعة، بحثاً عن واقع أفضل أمنياً ونفسياً واقتصادياً.

مع ذلك، لا ينبغي تجاهل التفكير الرغبوي الإسرائيلي، وما قد يتأتى عنه من أدوات جبارة وآليات جهنمية لاقتلاع الفلسطينيين وإكراههم على الرحيل. وأضعف الإيمان في هذا الإطار، تحري السبل الضامنة لمقاومة هذه الضغوط وقلب السحر على الساحر.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email