الواقع الأصيل ونقيضه

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتواضع الناس على معنى الأصيل بأنه هو الحقيقي، وعكسه الزائف. ونقل صفتي الأصيل والزائف إلى وصف الواقع الاجتماعي ينطوي على حكم وصفي موضوعي، وعلى حكم قيمي. فالواقع الأصيل موجود في الواقع بوصفه حاضراً في وعي الناس وحياتهم، وهذه هي موضوعيته، والواقع الأصيل هو ما يجب أن يكون عليه الوجود، وهذا معنى قيميته.

ولقد ميّز الفيلسوف الألماني الشهير هيدجر بين نوعين من الوجود: الواقع اﻷصيل والواقع الزائف. الواقع اﻷصيل هو وجود الذات في الهم الكلي في القلق وفي التخلي عن العابر. فيما الواقع الزائف هو الاندراج في عالم اللغو والنميمة والبحث عن الشهرة الزائفة.

ونقول في الوقت الذي ينشغل فيه الواقع اﻷصيل بفكرة المصير والكرامة اﻹنسانية ويحول قلقه الوجودي إلى إبداع، ينشغل الواقع الزائف ذو الوعي المنحط بالبحث عن حضور عابر متوسلاً بذلك الكذب والهراء. ويظهر هذا الفرق بين الواقع الأصيل والواقع الزائف أكثر ما يظهر في اللحظات الحاسمة من التحول التاريخي، حيث ينكشف الواقعان في الموقف والسلوك.

إذ يسعى الواقع اﻷصيل في الموقف والسلوك المعبر عنهما باللغة والممارسة إلى الكشف عن معناه وماهيته بوصفه مندرجاً بالهم الكلي، عائشاً عذابات البشر، رافعاً من القيمة الأخلاقية للكفاح الإنساني. وجاعلاً من همّ المصير كما يجب أن يكون همّه الفردي.

الواقع الأصيل للذات المنتمية إلى الهمّ الكلي وقلقه من الواقع لا يستطيع أن يعلن أن لا دخل له بعذابات الناس بوصفها عذاباته، وبفقر الناس بوصفه فقره، لا يستطيع أن يتجاهل مأساة السوري والفلسطيني واليمني والأحوازي والكردي، بل إن كل مأساة بشرية هي مأساته.

الواقع الأصيل الذي يعيش القلق الوجودي المأساوي يعبر عنه بتلك اللغة المتسامية التي لا تبلى مع الزمن.

ليس بالضرورة أن يكون الواقع الأصيل في صورة أبي العلاء المعري أو في صورة ابن رشد، أو في صورة الخيام، أو في صورة لؤي كيالي فقط، وإنما كل إنسان ينطوي على إمكانية الواقع الأصيل.

أما الواقع الزائف فهو الواقع الغارق في ذاتية مبتذلة، ذاتية لا تفكر بالهم الكلي للبشر، وجود يبحث عن مصالح آنية ضيقة، وكل وسيلة بالنسبة له مباحة دون أي اعتداد بالقيمة الوجودية للإنسان، الواقع الزائف عدواني تجاه الآخر موقفاً ولغة، فيغرق في الشتائم واللامعنى مظهراً غيرة زائفة على الأشياء الأثيرة عند الناس لإخفاء خنوعه الطويل.

وأسطع مظهر من مظاهر الواقع الزائف هو التعصب الذي ينفي الآخر انطلاقاً من وعي ضيق كـ «الطائفي» مثلاً. فالطائفية والطائفية المضادة وجود زائف. والأيديولوجيا العرقية والعرقية المضادة وجود زائف.

ولهذا لا يكون الرد على الواقع الزائف ومواجهته بوجود زائف على شاكلته، بل بمظهر الواقع الأصيل المتسامي الذي يحمل همّ الإنسان من حيث هو غاية الغايات.

بقي أن نقول بأنه إذا كانت لغة الواقع الأصيل لغة المعنى لغة جميلة ولغة الوجدان الصادق، لغة البحث الدؤوب عن الحقيقة حتى لو ارتكبت الأخطاء في طريقها للوصول إلى الحقيقة، فإن لغة الواقع الزائف لغة سوقية لا حياة فيها، بل هي موت اللغة الذي يظهر في صورة الشتائم. والنميمة والخطاب الكاذب الذي يخفي الحقيقة ويعاديها.

وللتعميم نقول هناك ثقافة أصيلة وثقافة زائفة، وكلتاهما تولدان الواقع الذي هو على شاكلتهما.

 

* كاتب فلسطيني

Email