مقال تحليلي

محاكمة «أوسلو»

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد خمسة وعشرين عاماً من توقيع اتفاق أوسلو، يتجدد الحوار حول الاتفاق التاريخي الذي فشل. أكان الوصول إلى هذه النتيجة قدراً محتوماً، أم كان من الممكن لـ«أوسلو» أن يقود إلى نتائج أفضل من ذلك؟

لا أظن أن فشل «أوسلو» كان قدراً محتوماً، على العكس كانت هناك فرصة، فـ«أوسلو» أتاح نافذة ضيقة كان من الممكن النفاذ منها إلى السلام، لكن كانت هناك أيضاً قوى عاتية كافحت بإصرار لإهدار الفرصة وإغلاق النافذة. جاء خصوم «أوسلو» من جانبي الصراع، فقد كان هناك إسرائيليون كارهون لـ«أوسلو»، بقدر ما كان هناك فلسطينيون يكرهونه، وتعاون الطرفان، ولو بغير اتفاق، لإهدار الفرصة النادرة.

تم توقيع «أوسلو» في لحظة تاريخية فريدة لم تدُمْ طويلاً ولم تتكرر، عن لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أتحدث، وهي اللحظة التي أعقبتها تسوية صراعات الحرب الباردة الكثيرة في كمبوديا وأنغولا وإثيوبيا وإريتريا وأفغانستان، وتحولت بلاد كثيرة في شرقي أوروبا وإفريقيا وآسيا نحو الديمقراطية، كانت تلك لحظة تفاؤل عالمي نادرة، بدا فيها العالم مقبلاً على مرحلة ازدهار واستقرار وسلام رائعة، فنشر المفكر اللامع فرانسيس فوكوياما كتابه «نهاية التاريخ»، الذي تنبأ فيه بنهاية الصراعات الإيديولوجية في العالم بعد أن انتصرت الليبرالية، وبات ممكناً تحقيق سلام ديمقراطي يقوم على التعاون بين دول تتبنى الديمقراطية واقتصاد السوق.

انتهت الحرب الباردة بينما كان يحكم إسرائيل تحالف يميني بقيادة حزب ليكود، وزعيمه إسحاق شامير. كان التحالف اليميني الحاكم في إسرائيل مفارقاً للحظة الليبرالية التي دخل فيها العالم ومتناقضاً معها. وكجزء من تحولات المزاج والرأي العام في العالم كله، حدث تحول في الرأي العام الإسرائيلي، فانهزم حزب الليكود اليميني في انتخابات يونيو 1992، ووصل إلى الحكم تحالف يساري يترأسه إسحاق رابين، وهو التحالف الذي بدا منسجماً مع لحظة السلام الديمقراطي في النظام السياسي الدولي، وتمت ترجمة ذلك في توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين في سبتمبر 1993، واتفاق للسلام مع الأردن في أكتوبر 1994، فبدا الشرق الأوسط كما لو كان قد عرف أخيراً طريقه إلى السلام.

احتفى العالم أجمع باتفاق أوسلو فيما كان خصومه من اليمين في إسرائيل يفعلون كل ما في وسعهم لإسقاطه، أثار توقيع «أوسلو» بعضاً من أعنف المناقشات التي دارت في الكنيست الإسرائيلي بين أنصار الاتفاق وخصومه، في هذه المناقشات تم استدعاء نصوص توراتية عن الأرض التي أعطاها الرب لشعبه المختار، وردّ رئيس الوزراء رابين بأن التوراة ليست سجلاً للعقارات المملوكة لشعب إسرائيل، وبدت إسرائيل منقسمة على نفسها بشدة، فيما كانت الاتهامات بالخيانة والتفريط تملأ الأجواء. وصلت حملة تحريض اليمين الإسرائيلي ضد «أوسلو» إلى ذروتها في نوفمبر 1995، عندما اغتال أحد المتطرفين اليمينيين رئيس الوزراء رابين، الذي أضعف اختفاؤه اتفاق أوسلو، وقلّص فرص استكمال عملية السلام.

أسهمت حركة حماس بدورها في تقويض «أوسلو»؛ فما إن تم التوصل إلى الاتفاق إلا وصعّدت حماس من هجماتها الانتحارية ضد المدنيين في مدن إسرائيل. جرت كبرى هجمات حماس الانتحارية بينما كانت إسرائيل تستعد لانتخابات مايو 1996، ففي شهري فبراير ومارس من ذلك العام مات 58 من الإسرائيليين نتيجة ثلاث هجمات انتحارية كبرى نفذتها حماس في القدس وتل أبيب. وظّف اليمين الإسرائيلي كل هجمة فلسطينية جديدة لتعزيز ادعاءاته بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام. وبينما كان مرشح اليسار شيمون بيريز يتقدم على منافسه نتانياهو في استطلاعات الرأي بعشرين نقطة في بداية العام، تكفلت الهجمات الانتحارية بتحويل الرأي العام في الاتجاه المضاد، ففاز اليميني بنيامين نتانياهو بالانتخابات التي جرت يوم التاسع والعشرين من مايو.

فاز اليساري باراك بانتخابات 1999 في إسرائيل، وتفاوض مع أبو عمار برعاية أميركية في كامب ديفيد في صيف عام 2000. فشلت المفاوضات، واشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي كانت عنيفة ومسلحة بلا هدف واضح، فتوقفت المفاوضات. خرج اليسار من الحكم في إسرائيل عام 2001، ولم يعد إليه منذ ذلك التاريخ. سيطر اليمين على حكم إسرائيل طوال العقدين الماضيين، فيما كانت اللحظة الليبرالية في النظام الدولي تتبدد. هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001، وما تبعها من عدوانية أميركية، وفقدان الحماس للسلام في الشرق الأوسط، كل هذه التطورات غير المواتية كانت كفيلة بالإجهاز على «أوسلو» نهائياً.

فشل «أوسلو» لم يكن مقدراً ومكتوباً، فقد كان هناك من يسعى بإصرار لإفشال الاتفاق. اللحظة الليبرالية في النظام الدولي كانت قصيرة، واتفاق أوسلو كان هشاً، وأعداء السلام كانوا مصممين على تدمير الاتفاق. الآن، انتهى «أوسلو» إلى الأبد، واليمين الإسرائيلي مزهوّ بانتصاره، بينما الفلسطينيون، كل الفلسطينيين، أنصار وخصوم «أوسلو» في مأزق غير مسبوق، فهل كان يمكن للتاريخ أن يأخذ مساراً آخر لو أن بعضهم تخلى عن التحزب الضيق، وتحرّر من الأيديولوجيات المتعصبة؟

 

 *كاتب ومحلل سياسي

يُنشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

Email