الوَسْم قبل الضَلَع!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول أحد أمثالنا المحلية: «أخْيَرْ مِن أُمّك وحدةٍ مَلّاقة»، والمقصود هنا، استنكار أن تكون أحرص على الإنسان من أُمّه امرأةٌ أخرى متملّقة، فمَن عُرِفَ حُبّه لإنسان، لا يمُكن أن يُقارَن بشخصٍ عابر، وبالمِثل، فإنّ مَن عُرف بحبه وتضحياته لوطنه وسعيه لرفعةِ شأنه، لا يصح أن يُحمَل كلامه الناصح على محملٍ آخر، يحاول به بعض الوصوليين التسلّق به على أكتاف ذاك الإنسان!

كل أفعال البشر قابلة للجدل حولها، وفق أثرها على مَن تمسّه، فالجيّد يُمدَح ويُطالَب بالإكثار مِنه، وغير الجيّد يُنتَقَد لتأثيره السيئ على حياة الناس، ويُطلَب تعديله بما هو أولى منه، بل ما قد يكون صالحاً وصائباً في زمن، لا يلبث أن تتغيّر مِن حوله الظروف، فيصبح تغييره واجباً، وهذا هو الطبيعي، ألا نتوقف عن تغيير وتطوير وتحسين الإجراءات لتتناسب دوماً وظروف البشر، فهي وُضِعت لتحسين ظروف معيشتهم، وليس العكس، وكشف قصور بعض الإجراءات، لا يعيب مَن وضعها، فهي في الأصل محاولات «خَيّرة»، وتهدف للتسهيل على الخلق، وعندما تخرج عن ذلك المسار، فمن الطبيعي أن يُشار لذلك الخروج لتعديله.

هذه المراجعة الدائمة للإجراءات والقرارات التي تمس الناس، هي من أبجديات الإدارة الحديثة، فلا يوجد شيء يصلح لكل زمان ومكان، سوى كتاب الله سبحانه وتعالى، أما اجتهادات البشر، فمن الضرورة بمكان أن تبقى تحت المراقبة الدائمة، لتحسينها وتعديلها وفقاً لتغيّر ما حولها من مؤثرات خارجية وداخلية، وكل من قرأ في مبادئ الجودة الشاملة، فإنه لا بد قد مرَّ بحلقة إدوارد ديمينغ المعروفة بـ PDCA، أي أنّ الإجراء لا بد أن يبقى دوماً في هذه الحلقة (تخطيط، تنفيذ، مراجعة، تعديل)، بل إن موروثنا الشعبي لم يغفل عن هذا الأمر، والمثل القديم يقول: «أُوسِمْها قبل لا تِضْلَع»، فلا بد مِن ملاحظة التغيّرات لإيجاد العلاج الاستباقي، قبل أن يستفحل الخلل ويصعب على الحل لاحقاً.

قرأتُ قبل أيام تغريدات لأحد رجالات البلد، ممن عُرِف بإخلاصه وحسّه الوطني وجدارته وكفاءته العالية، شخصٌ أمضى سنين طويلة في خدمة الوطن والدفاع عنه، وما زال، كانت التغريدات تحاول إيصال صوت شرائح من المجتمع تأثروا ببعض الإجراءات والقرارات للجهات الرسمية، لكي تُعيد وَزْنَ تلك القرارات وما آلت إليه، فقيادة الوطن الرشيدة، تحرص دوماً على إسعاد شعبها، وتوجّه جميع المؤسسات دوماً للعمل بمقتضى هذا الهدف، الأمر الذي يستوجب مراجعة كل إجراء أو قرار لا يتماشى وتوجيه القيادة، ولأن «راعي العوق أبْخَص بعوقه»، فإن المواطن يحتاج أن يجد من يوصل ما يقلقه أو يؤرقه وأسرته لكبار المسؤولين، فمن لا يعرف عن مشكلتك، لا لوم عليه إنْ لم يحلّها، و«لي ما ينزقر ما يتوايب»!

ما استوقفني حول تلك التغريدات المسكونة بالحرص على أهل البلد، هي انفعالات «بعض» الأشخاص الذين يبدو أنهم يحاولون افتعال المعارك للظهور بمظهر المدافع الأوحد عن البلد، وتطاولَ بعضهم وأكثر من الهمز واللمز في حق تلك الشخصية المحترمة، أنا هنا لا أحجر على أحد، أو أُطالب بمصادرة حقه في التعبير عن رأيه، لكنّ ليس من الرأي في شيء، التطاول على من خدموا البلد قبل أن يولد هذا الشخص المتطاول، ومحاولة «تسجيل نقاط» للشهرة، وزيادة المتابعين، والجرأة في التشكيك في وطنية الآخرين، هو أمرٌ بدأ يستشري بين اللاهثين خلف أضواء الظهور.

عندما حاول أحد المتملّقين استغلال خلاف في الرأي بين الإمام أحمد بن حنبل وإمام الجرح والتعديل، يحيى بن معين، وسأله على جمعٍ مِن الناس: «يا إمام، ما تقول في يحيى بن معين؟»، وكان يظنّ أن الإمام أحمد سيجدها فرصة للنيل من شخصٍ هو معه على خلاف، فإذا به يرد عليه كما يُفترَض بالكبار إذا خالفوا: «يا هذا، أتسألني عن يحيى؟ يحيى يُسْألُ عن الناسِ ولا يُسأل عنه»، فمَن عُرِف فضله وحُمِدَت سيرته وبانت أفعاله الخيّرة في سبيل الوطن، ومَن به لا يحجب ضوء مكانته وقَدْره، متملّق يبحث عن فُتات الشهرة، هما لا يستويان أبداً، فلا يمكن أبداً أن تكون «أخير من أُمّك وحدةٍ ملّاقة»!

* كاتب إماراتي

Email