جوهر التصعيد الأميركي الصيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

التصعيد الراهن بين الولايات المتحدة والصين هو أحد تجليات التحولات التي طرأت على النظام الدولي ومن شأنها أن تنعكس بآثارها العميقة على مجمل العلاقات الدولية.

في الأسبوع الماضي، كادت سفينتان حربيتان، أميركية وصينية، تصطدمان في بحر الصين. فبعد أن أبحرت مدمرة أميركية في بحر الصين الجنوبي قرب الجزر الصناعية التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها، انطلقت فوراً سفينة حربية صينية «لتحذيرها» وأجبرتها على المناورة لتفادي التصادم.

وقتها أصدرت كلا الدولتين بيانات غاضبة في حق الأخرى. الولايات المتحدة اعتبرت أن ما فعلته السفينة الصينية «غير مهني» ومناهض لحرية الملاحة في المياه الدولية، بينما أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن اقتراب المدمرة الأميركية من الجزر مثّل «تهديداً لسيادة بلادها وأمنها»، ووصفت وزارة الخارجية الصينية الأمر بأنه «استفزاز» وخطأ لا بد من «أن تصححه» أميركا.

فالصين منذ فترة تبني في بحر الصين الجنوبي ما صار يعرف باسم «سور الرمال العظيم»، وهي مجموعة من الجزر الصناعية، لاستخدامها لأغراض دفاعية.

وهي صارت تعتبر ما يحيط بتلك الجزر جزءاً من مياهها الإقليمية. وتستغل الولايات المتحدة تعارض ذلك مع القانون الدولي بشأن الملاحة البحرية للإصرار على الإبحار في تلك المياه. وقد رفع ذلك حدة التوتر في الإقليم بأكمله وصار يثير قلق دوله.

فعلى سبيل المثال، حذر مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، من «اندلاع الحرب» في بحر الصين الجنوبي، مؤكداً أن «الصين لها كل الحق في أن تذهب أينما تريد لكن من فضلكم لا تمنعوا السفن من المرور» في بحر الصين، مشيراً إلى أن السياسة التي تتبعها بلاده هي رفض وجود مقاتلات بحرية في بحر الصين.

لكن واقعة بحر الصين الجنوبي مجرد إحدى حلقات التصعيد الأميركي الصيني. فوزارة الخارجية الأميركية كانت قد أعلنت فرض عقوبات على الصين بموجب صفقة صينية روسية لشراء مقاتلات روسية ومعدات للصواريخ الأرض جو.

وقد جاء رد الفعل الصيني سريعاً إزاء تلك العقوبات، حيث تم استدعاء السفير الأميركي، ثم قطع قائد القوات البحرية الصينية زيارته للولايات المتحدة عائداً لبلاده، وهو ما تلاه مباشرة الإعلان عن تأجيل زيارة وزير الدفاع الأميركي للصين.

وقد كان تأجيل الزيارة في ذاته مصدراً للتراشق بين البلدين، إذ اتهمت كل منهما الأخرى بأنها المسؤولة عنه، وفي الوقت الذي أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن زيارة وزيرها لأميركا التي كانت مزمعة نهاية العام الجاري «قد لا تتم»، قالت الولايات المتحدة إن الصين منعت سفنها الحربية من الوصول إلى هونغ كونغ.

وقد تلا ذلك كله تصريحات عنيفة لمايك بنس نائب الرئيس الأميركي وجه فيها اتهامات عدة للصين كان على رأسها أنها «تسعى لتقويض» حكم ترامب. وقد تزامن ذلك مع إعلان وزارة الأمن الداخلي الأميركية أن الحرب الإلكترونية الصينية عادت للصدارة.

فرغم التحسن الذي كان قد طرأ بعد الاتفاق الذي كان قد وقعه أوباما مع الرئيس الصيني في 2015 للعمل معاً لمكافحة الحروب الإلكترونية، قالت الوزارة في بيانها، الأسبوع الماضي، إن الحرب الإلكترونية من جانب «مؤسسات ذات علاقة بالحكومة الصينية» قد عادت من جديد.

وتأتي كل تلك التطورات على خلفية تصاعد الحرب التجارية بين البلدين، التي لا تزال كل منهما توجه فيها للأخرى ضربات موجعة.

ورغم أن جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي كان الصوت الوحيد الذي خرج من البلدين ليؤكد أن علاقتهما «لم تتحول للأسوأ»، وإنما «علينا أن نتعلم كيف نديرها»، إلا أن سلسلة التصعيد لم تتوقف ولا التراشق بين البلدين انتهى.

والحقيقة أنه لا يمكن فهم ذلك التصعيد الخطير إلا في إطار مجمل أوضاع النظام الدولي. فقد طرأت تحولات جوهرية على التحالفات الدولية التي عرفناها تقليدياً. فالصين واليابان على سبيل المثال اتفقتا على إقامة ما أطلقتا عليه «الخط الساخن لإدارة الأزمات» في منطقتي بحر اليابان وشرق بحر الصين، واستراليا والهند تسعيان لتوطيد علاقاتهما مع الصين لا فقط الولايات المتحدة.

وكل ذلك يعيد تعريف التفوق في القوة العسكرية الأميركية، الذي ظل هو أهم مقومات «القوة العظمى» بالنسبة للولايات المتحدة في النظام الدولي.

ولعل هذا هو في الحقيقة جوهر التصعيد الأميركي الصيني. فالولايات المتحدة تخشى من تحول الصين لقوة عظمى، لا فقط قوة كبرى. وهو ما قد يؤدي في حد ذاته لدفعها نحو الحرب مع الصين.

هذا إذا ما صحت نظرية عالم العلاقات الدولية المعروف جرام أليسون، الذي أكد في السبعينيات أن القوة التي تخشى من صعود قوة أخرى منافسة قد تندفع لشن حرب عليها وهو ما أطلق عليه اسم «فخ ثيوسيديداس».

 

 

 

Email