مُداراة النظير

ت + ت - الحجم الطبيعي

قيل الشرف في ثلاث: إجلال الكبير، ومداراة النظير، ورفع النفس عن الحقير. لا أعلم من قائل العبارة لكنها في صميم الواقع. فالنظير قد يكون زميلاً في العمل ينبغي مداراة مشاعره. وذلك، مثلا، عندما يتناهى إلى أسماعنا رغبة الإدارة العليا في ترقيتنا أو منحنا زيادة مجزية في الراتب أو المكافأة السنوية أو دورة تدريبية لطالما انتظرها النظراء.

حتى مدح الرئيس للمرؤوس يفضل أن يبقى في طي الكتمان، فالناس بشر ومن الحكمة مداراة مشاعرهم. سيعلم الجميع عاجلا أم آجلا ذلك لكن التفاخر في كل شاردة وواردة مع النظراء قد تولد شيئا من الحسد الخفي. وفي حالات النظراء الحقودين أصلا فإن مشاعر السوء ستتفاقم وقد يحيكون لنا مزيداً من المؤامرات.

لا يستطيع المرء أن يحجب عن الناس الأخبار لكن في وسعه التخفيف من وطأتها بتجنب البوح بها. لأن العمل ميدانه الأفعال الجادة وليس الانشغال بالتفاخر والقيل والقال. ثم إن رؤية الناس لتفانينا وإخلاصنا على أرض الواقع أبلغ بألف مرة من نقلنا لما يقوله الناس عنا. وكما قيل فإن نصف العقل مداراة الناس.

صحيح أن الشاعر يقول «إنما الدنيا مداراةُ.:. فمن تخشاه دارِه» غير أن هذا لا ينسحب على مداراة مسؤول ظالم. فمن أقبح صور المداراة تجاهل مظلوم مداراة لمشاعر الظالم.

والظالم قد يكون مديرا بنى قراره على معلومة نعلم علم اليقين أنها غير صحيحة. فتنطبق علينا مقولة «الساكت عن الحق شيطان أخرس»! فنحن وشاهد الزُّور سواء لأننا رضينا بتوريط النظير بسبب معلومة أبقيناها في طَي الكتمان.

والنظير قد يكون بلداً أو شركة أو منظمة. ومن هنا بزغ مفهوم «التكامل» في عالم «البزنس» أي أن تحاول الشركة تكملة جهد حالي لآخر، ابتعادا عن تداعيات المنافسة الضارية. هذا النوع لا يتطلب بالضرورة تنسيقا بل هو مجرد اختيار مساحة «مهملة» للعمل في نطاقها.

مثل تقديم خدمة أو منتج رائد مكمل لما اشتراه عملاء شركة مصنعة. وينطبق الحال على الدول والأفراد. فحينما تجد دولة أو ولاية أو محافظة أخرى قد شقت طريق تميزها في مجال ما يكون الأجدر أن تسلك جارتها ما يكملها.

وهذا لا يلغي مشروعية التنافس المحموم. غير أن المداراة أو تكملة جهود الآخرين هي خيارات (مثل التنافس الضاري) مطروح على الطاولة. وكذلك الحال مع زميل في العمل برز في سد ثغرة نالت استحسان الجميع في العمل فيختار المرء مجالا مختلفا مداراة لمشاعره، وربما الأهم أن ينشغل بمجال منسي بعيدا عن صراعات الندية.

وتبقى أكثر صور المداراة شيوعا أو حاجة هي مراعاة مشاعر الناس. ويبرز ذلك في القصة الشهيرة التي استأذن فيها على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ فَقُلْتُ لَهُ (أي عائشة) يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ له فِي الْقَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إن شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.

(متفق عليه). وهذا مؤشر على أن الحكمة تقتضي أن يحافظ المرء على وقاره بمداراة البعض. والمداراة لا تعني المداهنة، فالأخيرة صورة من صور التزلف لمكسب سائل.ولذا قيل من الحكمة مداراة الناس، وكذلك الحال مع بعض المؤسسات والدول التي تستحق ذلك.

Email