توافقية لا تشاركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكثر من ثلاثين عاماً ما بين تجارب إعلامية وقانونية وأسرية، ونحن نطالب بضرورة تشارك الزوجين في إدارة الأسرة، سواء تربية الأولاد، أو حتى إدارة العلاقة الزوجية، وما يستوجب من كلا الطرفين من إبداء الرأي في أي تفصيلة، مهما كانت صغيرة أو كبيرة تخص الأسرة، ولكن بعد أن سمعنا واطلعنا وشاهدنا ما يدور في المحاكم من قضايا نزاع أسري بمختلف أشكاله وأنواعه، وجدنا أن التشاركية لن ينتج عنها إلا أحد أمرين، إما التعنت في الرأي يصل حد الخلاف، أو رضوخ من قبل أحد الأطراف، فتعود المسألة إلى سابق عهدها، من أحادية الرأي وإدارة الأسرة من قبل أحد الأطراف، بصرف النظر عما إذا كان الطرف هو الرجل أو المرأة، وأنا في هذا المقام، لا أتحدث عن كل الحالات، ولكن عن معظمها وأكثرها، ومن رأى عكس رأيي، فليضرب به عرض الحائط.

التشاركية في كل شيء ينتج عنها الخلاف، وذلك بسبب الاختلاف في وجهات النظر، وقلما تجد شخصين اتفقا على تسوية هذا الخلاف عن تراضٍ تام، وهذا ما نجده في الشراكات التجارية، حيث إن البعض يقول إن «الشريك أصعب من الضرة» في غالب الأحيان، وهذا ما يحصل داخل البيت، حيث إن التشارك في الرأي في كل صغيرة وكبيرة، يعمل على إيجاد جدال عقيم، يصعب الوصول فيه لنقطة تلاقٍ، وتجارب الواقع تقول إن أغلب حالات الطلاق، نجد أن سببها موضوع حياتي بسيط، تحوّل لجدال عقيم، ومن ثم تحوّل لإساءة معينة، سواء لفظية أو جسدية، ومع تراكم هذه الحوادث، تصبح الحياة بين الطرفين شبه مستحيلة، أو يتخلى أحد الأطراف عن دوره الأسري، فيصبح ضيف شرف على موائد الإفطار والغداء والعشاء.

الأنسب والأعقل، أن ننادي بوجود «التوافقية»، وليس التشاركية، فالتشاركية لغة تنظيرية «لغة مؤتمرات وصحف ومقالات»، وليست لغة أسرة وواقع وأمور حياتية يومية، قد تكون إحداها هي التي تقصم ظهر البعير، فتُدمر الأسرة، وقبل أن نصل لهذه المواصيل، علينا أن نبحث في واقعية الحلول، والواقع يحتم علينا إيجاد لغة التوافقية، أو الموافقة بقبول الرأي الآخر عن تراضٍ، وليس لمجرد الاستسلام، فمثلاً، قد يتجادل الزوجان في أحد الأمور الحياتية، فإذا اتبعنا أسلوب التشاركية، فلن يصلا لحل يقبل به الطرفان ١٠٠ %، بينما قد يختار أحد الطرفين الحل الأنسب للمشكلة، ويوافقه الطرف الآخر عليه بصدر رحب، وهذه هي التوافقية، وهي الأنسب، أما في حالة «التشاركية»، فمهما تظاهر الإنسان أنه وصل حد القناعة برأي الآخر، إلا أنه، ومن داخله، يقول إنني أنا الأصح في رأيي، وسأقبل بهذا الرأي لإنهاء مشكلة أو مسألة ليس إلا، ومع توالد هذه الحسرات أو التنازلات دون قبول مطلق، تصبح الحياة مع الشريك صعبة، لاقتناعنا مرة تلو مرة، أن التفاهم أصبح مستحيلاً، وأن العقول لا تنسجم مع بعضها البعض.

قد يقول البعض إن التوافقية تلغي رأي أحد الأطراف، ولكن هذا الأسلوب لا يمنع من تقديم أحد الأطراف وجهة نظره، والتعبير عنها وإبدائها في أي مسألة، ولكن يترك للطرف الآخر حرية الرأي في أخذ هذه النصيحة أو الاستشارة من عدمها، وتتقسم الأدوار داخل الأسرة بين الطرفين، فلا يجبر أحد منهما الآخر بقبول رأيه، أو فرض ما يراه أحدهما على الآخر، أو حتى على الأسرة، فالسفينة لا يقودها ربانان، ولكن يديرها ألف ربان لو أردنا، فالإدارة مسؤوليات مقسمة لأدوار، وبالإمكان أن يجتمع أكثر من مدير ليدير مهام معينة بعينها، أما القيادة، فقراراتها محددة ومصيرية، ويجب أن تؤخذ من قبل شخص واحد، بدلاً من التشتت، ولهذا تجد أن القيادي دائماً ما لديه مستشارين يملون عليه آراءهم دون إجباره بأخذها، وللقائد حرية التصرف في النهاية.

هذا ما نريده لأسرنا، أن يكتفي الأب والأم بأن ينظر أحدهما، أي أنه مجرد مستشار يقدم النصيحة والمشورة، والآخر هو القائد وصاحب القرار، ولكل أسرة حرية تعيين قائدها، فأسر ترى بالأب القائد والأم المستشارة، وأسر ترى في الأم القيادة وللأب الرأي بالاستشارة، ولا مانع من تشكيل مجلس مستشارين من الأولاد، ليكون لهم رأيهم، وهكذا تتقاسم الأسرة أدوارهم، ففي كل أمر من أمور بيتهم، يجعلون القرار للقائد، بعد تقديم المشورة، لا أن يفرضوها عليه.

التشاركية لن تكون حلاً أبداً مهما نظّرنا وكتبنا في كتب التوافق الأسري، فالواقع تجاربه طويلة، ومبني على تراكمات كثيرة ومعقدة، ومهما رسمنا تلك الصورة الباسمة لأسرنا، إلا أننا سنصطدم بالواقع عندما نعيشه، والحياة الأسرية طويلة، تكاد تكون ثلثي أعمارنا، فلهذا، من الحكمة أن نؤسس لتوافقية في الرأي لا التشاركية، فنحن مجتمعات تحب الجدل والجدال، وهذا ما تربينا عليه، نحن نحب إثبات الذات، ولو على حساب الآخر، ولن تنفع معنا أبداً أن نتشارك في القيادة، فلنعرف أنفسنا أولاً، ونرضى بأدوارنا الاستشارية الإدارية ثانياً، ونقبل بأن يكون طرف آخر هو القائد في هذه اللحظة، ولنا نصيبنا من القيادة في أوقات أخرى، هكذا ننهي الجدال العقيم الذي يصل بالحياة الزوجية لمفترق طرق يستحيل أن يلتقيا به، هذه تجربتي، ولكم أن تأخذوها أو لا، فالمستشار لا يفرض رأيه، إنما يقدم رأيه؛ فهل وصل الدرس؟!

Email