لغتنا وهويتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تنشغل العرب منذ أزيد من قرن بسؤال الهوية، بل قل، بمشكلة الهوية. والهوية مشكلةً يعني أن هناك أجوبة متعددة عن السؤال: من نحن؟

ولستُ براغبٍ الدخول في زوايا الرؤية المتعددة حول الهوية، حسبي القول: إن استمرار المشكلة لا يعني سوى أن التاريخ الواقعي لم يجب إجابة عملية عن سؤال الهوية. ولقد تناولنا هذه القضية على صفحات "البيان" حين طرحنا السؤال: من نحن. لكن سؤال الهوية لا ينفصل عن سؤال اللغة.

لماذا اللغة؟ اللغة ظاهرة لا تخضع إطلاقاً لمنطق الزوال، إذا كانت لغة حية ولجماعات كبيرة. اللغة تتطور وتغتني لكنها من الثبات بحيث لا تستطيع أية قوة نافية أو أي تغير موضوعي أن تأتي عليها. ولسنا نبالغ في القول: إن كل لغات الأمم ذات الشأن التاريخي والكم العددي الكبير تشكل العنصر الحاسم في وعي هويتها.

غير أن اللغة معزولة عن الشعور بالانتماء لا تقوم بالدور ذاته الذي تقوم به لغة قوم أو أمة تشعر بالانتماء إلى الأثنوس. إذ يمكن لشعوب ما أن تعرف لغة شعبٍ آخر، كمعرفة الهندي للغة الانجليزية ومعرفة الجزائري للغة الفرنسية، غير أن لا الهندي ولا الجزائري ينظران إلى الانجليزية والفرنسية كمحددين لهويتهما. لأن اللغة هنا غير متطابقة مع الوعي الذاتي بالانتماء.

وتأسيساً على ما سبق يمكن القول: إن العربية اليوم تقوم بوظيفتين أساسيتين: وظيفة تواصل من جهة، ووظيفة تأكيد الانتماء من جهة ثانية. وهذا ما يجعلها مقوّماً أساسياً من مقومات الشعور بالهوية المشتركة.

وتزداد قيمة العربية مقوماً أساسياً من مقومات الهوية العربية بازدياد الإبداع العربي باللغة القومية على مستوى الأمة.

أجل، فالإنتاج الثقافي العربي بقدر ما يغني اللغة العربية فإنه يحافظ عليها وعياً هوياتياً. إذ إن استمرار اللغة العربية وسيلة إبداع فكري أدبي يحفظها من جهة ويطورها من جهة ثانية.

فضلاً عن ذلك، فإن استمرار التواصل بين أبناء العربية، عبر وسائل الإعلام والتواصل المختلفة صار يؤسس للغة عامة تزيل الفوارق الكبيرة بين اللهجات المحكية واللغة الفصيحة.

ومما يزيد من أهمية العربية مقوماً هوياتياً، أن أبناء العربية ينظرون إلى لغتهم بوصفها لغة عظيمة، مكتوب بها «القرآن الكريم».

وفي كل الأحوال فليس هناك من قومية، أو أمة، لا تشكل اللغة المقوم لوعيها الهوياتي. غير أن المشكلة في تعيين الهوية عبر اللغة تعيين جزئي، إذا ما استمرت التجزئة العربية على هذا النحو.

فاللغة الاسبانية المنتشرة في أميركا اللاتينية لا تشكل مقوّماً من مقومات الوعي بالهوية الكلية للشعوب في أميركا اللاتينية، ولا تشكل البرتغالية سبباً للحديث عن علاقة هوياتية بين البرازيل والبرتغال. من هنا تبرز أهمية ربط اللغة كقوم من مقومات الهوية بعناصر أخرى لا تستقيم معها الهوية اللغوية إلا بها.

صحيح أن التاريخ المكتوب بالعربية يفرز من الهوية، لكن وعي التاريخ بوصفه تاريخ أمة محددة، بوصفه تاريخاً ننتمي إليه هو الذي يحول اللغة إلى عنصر فاعل في الهوية كمخزن للتاريخ.

ويعتقد بعض العدميين: أن العربية صارت لغة عاجزة عن استيعاب منجزات العلم. العجز ليس لغوياً، إنما العجز في العاجزين حضارياً.

إن طرح مشكلة الهوية واللغة يجب أن يترافق مع الطرح السياسي والأخلاقي والاجتماعي والثقافي لمشكلة الهوية عربياً.

ذلك أننا لسنا أمام مشكلة لغوية، بل أمام مشكلة حضارية سياسية، إنها مشكلة مستقبلنا.

Email