الخبرة والعبرة في كتابة السيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كتب السيرة هي جنس أدبي يتناول سيرة حياة الكاتب منذ بواكير حياته ونشأة وعيه حتى مرحلة متقدمة من عمره تكتب عنه، أما ما يكتبه الشخص عن حياته وسيرته الذاتية فيسمى بـ المذكرات.

وأنا شخصياً أميل إلى هذا النوع من الكتب وأشجع عليه لما تختزنه من معلومات وتجارب تغني المرء عن قراءة عدة كتب نظرية، وخاصةً المذكرات التي هي سرد لما مر به صاحبها على أرض الواقع وما عاشه من لحظات وساعات وأيام وشهور، كأن هذا السرد هو سفر في حياته يأخذنا معه لمعرفة ميوله وأفكاره وردود فعله وتحليلاته لما حدث في زمانه من مواقف تاريخية أو حروب أو كوارث، إلى غير ذلك مما يستفيد منه المؤرخ والاجتماعي والأكاديمي والطالب.

ولأهمية كتب السيرة والمذكرات في توثيق حياة الأشخاص فإن جلّ العظماء في التاريخ كتبوا سيرتهم أو كتبها عنهم أدباء أو كتاب آخرون، وهناك طبعاً فرق واضح بين أن يكتب المرء سيرته بنفسه أو يكتبها عنه غيره، لكن التجارب والمواقف بوصفها محطات أساسية في حياة الشخص هي الأساس الذي تعتمد عليه السيرة أو المذكرات.

ولعل ما يشدني لقراءة سير العظماء أو الشخصيات المهمة، هو الموقف الأخلاقي، أي أين تتجلى الصفات الإنسانية والأخلاق الرفيعة في صاحب السيرة، وما هو موقفه تجاه أهله وأسرته وأصدقائه، وتجاه وطنه وتجاه الإنسانية، في مذكرات الشاعر المعروف حمزاتوف (داغستان بلدي) يتجلى عند حمزاتوف حبه لوطنه داغستان، وفي كتاب الأيام لطه حسين نجد مصر وأهلها والمعرفة والسعي من أجل العلم.

ولعل من أشهر كتب السير في تراثنا العربي والإسلامي هي سيرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لابن هشام، التي كتبها في القرن الثاني للهجرة، وسير الخلفاء الراشدين الأربعة لعباس محمود العقاد، ويحضرني ما ورد في سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن أمير المؤمنين كان مع أصحابه فهبت ريحٌ أطفأت المصباح، فقام وأشعله، قالوا: لو أمرت أحدنا يا أمير المؤمنين.

قال: ما ضرني قمتُ وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.

وفي كتب السيرة قديمها وحديثها كنوزٌ من الحكمة وجزالة في القول وخبرة عميقة، فقد ذكر الفيلسوف والناقد الاجتماعي البريطاني «بيتراند راسل» في مذكراته يقول: « ثلاثة جوانب من الشغف إنها بسيطة لكنها قوية بشكل كبير بحيث حكمت حياتي هي الشوق للحب والبحث عن المعرفة، وشفقة لا تحتمل معاناة البشرية».

أما الفيلسوف تشومسكي فقد كتب يقول: «العالم مقسم إلى أناس مثلنا، وآخرين ممن لا يهتمون بما يحدث للبشرية».

ونجد في كتب سير العظماء في التاريخ مغارات من نفائس الدرر مجهولة، ما إن نرافق هذا العظيم في رحلة حياته حتى نكتشف عوالم أخرى، ونجد الألم والمعاناة، والطريفة والنكتة، ولا نمل حتى نصل منتهى السيرة، وقد غرفنا من المعرفة الكثير وتمتعنا كثيراً.

ومما كتبه لي كوان مؤسس سنغافورة في مذكراته: «أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني، فخصصتُ موارد الدولة للتعليم، وغيرتُ مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة، فالمعلم هو صانع المعجزات، هو من أنتج جيلاً متواضعاً يحب العلم والأخلاق بعد أن كنا شعباً يبصق ويشتم في الشوارع». كلام في غاية الروعة وحكمة من واقع تجربة غنية.

وأختتم بما ورد في مذكرات العالم أينشتاين، وهو يتحدث عن نظارته: «ذهبت ذات يوم إلى أحد المطاعم واكتشفت أنني نسيت نظارتي، فلما جاء نادل المطعم بقائمة الطعام لأقرأها، اعتذرت وطلبت منه أن يقرأها فقال لي: آسف يا سيدي فأنا أميٌّ مثلك!».

تبقى السيرة والمذكرات كنوزاً من المعرفة، لابد من توجيه الشباب خاصة للاطلاع عليها لتعزيز ثقافتهم وإغناء تجاربهم كما قرأنا وتعلمنا.

 

 

Email