قول في العداوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعود العداوات بين البشر إلى تاريخ غارق في القدم، بل إن أحداً من المؤرخين لم يحدد لنا تاريخ أول صراع حربي بين الجماعات الإنسانية.

غير أن لغات الأرض كلها، بلا استثناء، تحتوي على مفاهيم دالة على العدوان، كالحرب والغزو والسبي والقتل والتصفية والسلب والنهب والتجويع والحصار. وما اختراع الأسلحة إلا للعدوان وصد العدوان. وربما يعود هذا كله إلى ما أشار إليه الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز 1588-1679من أن الإنسان ذئب أمام أخيه الإنسان، بل إن المسرحي الروماني بلاوتس الذي في عام 254 قبل الميلاد قد أشار في مسرحية أسيناريا إلى ذلك بقوله الإنسان ذئب للإنسان.

وتُعرّف العداوة بأنها الخصومة بين طرفين أو أكثر، وأسباب العداوة بين الأفراد والجماعات والدول كثيرة.

وموضوع قولنا هو العداوة بين الجماعات والدول لما لها من أثر على مصير الناس المنتمين إلى طرفي العداوة أو أطرافها .

ولعمري إن أخطر أنواع العداوات هو العداوة داخل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم لأسباب قبلية أو دينية أو عرقية أو مناطقية أو سلطوية.

والحق أن العداوة بين جماعات شعب من الشعوب تدل على تأخر تاريخي اجتماعي وثقافي، وبخاصة إذا كانت أسبابها دوافع عنصرية وطائفية متعصبة تفضي إلى حروب أهلية. فلمن لا يعلم فقدت الإمبراطورية المقدسة في الحرب بين البروتستانت والكاثوليك ثمانية ملايين نسمة، وفقدت روسيا في الحرب الأهلية بين الجيشين الأحمر والأبيض مليونين، وثلاثة ملايين بسبب التفوئيد.

خسر لبنان الصغير في الحرب الأهلية التي ما زالت عقابيلها مستمرة حتى الآن مئة وخمسين ألف نسمة، وقس على ذلك الحروب الأهلية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

فلقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى مقتل ما يقرب من تسعة ملايين قتيل، وواحد وعشرين مليون جريح، وسبعة ملايين أسير ومفقود.

فيما خسرت البشرية في الحرب العالمية الثانية ما يقرب من خمسة وستين مليون نسمة.

العداوة بين الدول أكثر تكلفة من حيث البشر والاقتصاد، لكنها قد لا تستمر طويلاً، فها هي اليابان وأميركا دولتان متحالفتان بعد أن ألقت هذه الأخيرة قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونكازاكي.

فيما تغدو، غالباً، العداوة التي أنتجت حروباً أهلية بين جماعات شعب ما خصاماً مستفحلاً يمتد لمئات السنين، هيهات له أن يُحل. ويمكن أن ينفجر بين الحين والآخر وعلى أنحاء مختلفة، فالعداوات القديمة قد تتوارثها الأجيال عبر السرديات التي تُلقن بأشكال متعددة من التلقين، وهنا تكمن الخطورة.

فسرديات الجماعات عن الحروب الأهلية تبعث الأحقاد على نحو دائم، وهنا يكمن وجه الخطورة في الخطاب الإعلامي والديني والقومي الذي يصدر عن شخصيات متزعمة أطراف العداوة، وذات مصلحة باستمرارها، وهي سرديات تختلط فيها الأكاذيب مع الوقائع، والوقائع مع الأيديولوجيا، والأيديولوجيا مع التحريض.

وحال العرب اليوم مع السرديات الأصولية حالة مزرية، وبخاصة بعد أن أصبح أصحاب السرديات يتوافرون على وسائل التواصل والاتصالات المتنوعة. والجماعات التي تخوض حروبها الداخلية متكئة على سرديات زائفة كالحوثيين وجماعات أحزاب الله والدواعش والأصناف المتعددة من الإسلاميين السياسيين وداعميهم من دول معينة يشكلون اليوم الخطر الأكبر على المجتمعات العربية والهوية الوطنية والقومية معاً.

فهذه السرديات التي تخلق العداوات وتؤججها في ظل مشكلات الحياة والسياسة تجد آذاناً صاغية عند من استبدّ بهم اليأس والتشاؤم وصار لديهم مكبوت لا شعوري من العنف.

والحق أن المجتمعات العربية التي عانت من عجز في الحوكمة وعنف في السيطرة وفساد في الإدارة قد انفجرت فيها العداوات إلى حد غير متوقع، عداوات تتلقى تأجيجاً خارجياً لإطالة أمدها لغايات وضيعة، ولهذا كله فإن التفكير بواقع العداوات ومستقبلها السلبي جداً من قبل النخب الثقافية والسياسية التي تنطلق من الحس الوطني والعقل العملي - الأخلاقي، أمر في غاية الأهمية، ولا تفكير إيجابياً في المستقبل دون عين فاحصة وواعية للواقع.

 

 

Email