«كون راضي غصب !»

ت + ت - الحجم الطبيعي

من جميل ما أحفظ تلك المقولة الشهيرة بأنّ قائد المؤسسة أشبه بقائد الأوركسترا، لا بُد أن يُعطي ظهره للجمهور ويستقبل فرقته ويهتم بتوجيههم وإيجاد التناغم بينهم حتى تخرج المعزوفة بشكل جميل ثم في النهاية يتشارك الجميع تصفيق الموجودين وإعجابهم!

تخيل لوكان هذا الشخص يواجه الجمهور وقد أعطى ظهره لفرقته وبدأ التوتر يسود والعزف يتعارض بعضه مع بعض، وهو بين اللحظة والثانية يلتفت لهم غاضباً لكي يبتسموا رغم الارتباك والفوضى، المهم عنده أن يبدوا أمام الجمهور مبتسمين رغم أن المقطوعة الموسيقية نشاز مزعج، تماماً كالمؤسسات التي يصرخ مسار أعمالها بسوء بيئة العمل الداخلية لكن سعادة المدير يأمر الجميع أن يبتسم!

قبل أيام خرجت تغريدتان لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رعاه الله استوقفتاني كثيراً، يقول بو راشد في الأولى: «أصعب مهمة تواجهني هي البحث عن قادة لديهم إنكار للذات والأنا. ولديهم إيمان بالعمل من أجل الغير. هم قِلة. لكنهم يصنعون التغيير. ويحركون الجبال. لأن همتهم تكون مختلفة. ودوافعهم تكون نبيلة. وإنجازاتهم تعطيهم دافعا للتضحية المستمرة من أجل الوطن»، فالمطلوب الصعب الذي لا يوجد بسهولة هم تلك الفئة من القادة التي تهتم بالإنجاز والعطاء غير المشروط من دون بحث عن أضواء كاميرات أو صور تتصدّر أغلفة الصحف، هم تلك الفئة التي أسماها جيم كولينز في كتابه الشهير Good To Great قادة المستوى الخامس، قادة متواضعون يحبون الخير للجميع ومستعدون للعطاء دون توقف ودون انتظار لمقابل، لا يقبلون أن يحصروا الثناء على الإنجازات لأنفسهم بل يُشركون الجميع، الفريق لديهم أهم بكثير من «الأنا» وصالح الفرد ما لم يخدم صالح الجماعة وإلا لا يؤبه له!

التغريدة الأخرى لبو راشد حفظه الله والتي حصلت على أكثر من 25 ألف «ريتويت» في فترة قصيرة، وتفاعل معها الجميع بصورة نبّهتنا إلى كارثية بيئات العمل في بعض المؤسسات التي لا يزال المسؤول فيها يدير ظهره لفرقته لأجل أن يكون الظاهر الوحيد أمام الجمهور لنيل المديح والشهرة والتصفيق أو على الأقل «الوجاهة» إن كانت مؤسسته تتعثّر في كل أعمالها لسوء إدارته.

يقول فيها حفظه الله: «اطلعت على تقارير رضا الموظفين في 40 جهة حكومية اتحادية، تصل نسبة الرضا في بعض الجهات إلى 93٪، لدينا 5 جهات تقل فيها نسبة الرضا عن 60٪، هذه النسب غير مقبولة، رضا الموظفين مفتاح لرضا المتعاملين، 6 أشهر مهلة نعطيها لمديري هذه الجهات لتغيير بيئة العمل، رأس مال الحكومة الأغلى هو موظفوها»، سموّه يوضحها بجلاء أن للمؤسسة عميلين: عميل خارجي وعميل داخلي هو الموظف، فمن المحال تقريباً أن يحظى العميل الخارجي بتجربة تعامل جيدة مع المؤسسة إن كان الموظف غير سعيد أوفي بيئة عمل سيئة، التأكيد من سموه كان مثلجاً للصدور وهو قول بأنّ رأس مال الحكومة «الأغلى» هو موظفوها، كم هم محظوظون أولئك الذين يعملون مع سموه، هذه جملة لو سمعها موظف بسيط لوافق على حمل الجبال فوق ظهره وهو مبتسم!

طبعاً «نقع الصايح» وأُعْلِنَت حالة الطوارئ في تلك المؤسسات المقصودة وأمثالها، الغريب أنّ حالة الطوارئ هذه ليست للمسارعة للإصلاح وتحسين ظروف العمل ومعالجة أسباب تذمّر الموظفين ولكن كانت لإرغامهم على إعادة ملء نموذج التقييم وكتابة (راضي) فيه، إحدى المديرات قالت لموظفيها: «أنا ما أؤمن بشيء اسمه سعادة، عندكم مكيف وعندكم مكاتب» ثم قامت بتوزيع الاستبيان من جديد لتغييره، بينما مدير آخر أو أُخرى قام بعمل ورشة عمل عن «السعادة» وعندما انتظر الموظفون خطته لتحسين بيئة العمل ورفع شعورهم «فعلياً» بالرضا عن مكان العمل كانت الصدمة بقوله: «إذا مب مرتاحين دوروا مكان ثاني»!

هذه المؤسسة تحديداً استقال منها أكثر من 20 مواطناً خلال الشهور القليلة الماضية، لكنّ المدير أو المديرة آخذ وضعية «ما يهزّك ريح يا جبل»، المفجع والذي أفصح عنه عدد من الموظفين في تغريداتهم أنّ الاستقالة نفسها يتم رفضها ليس من باب التعلّق بالموظف أو رغبة في عدم التفريط في كفاءته، ولكن حتى «ما يجيب لنا الكلام»، بمعنى أن يكتب أن الاستقالة لأسباب شخصية بحتة ولا علاقة لها ببيئة العمل، أما إن قال إنها للبيئة الطاردة فسيتم تأخير إجراءاته حتى «يصطلب» ويغيّر ما كتب!

تقول الحكمة الصينية: «إن كان وجهك قبيحاً فلا تَلُم المرآة»، فنتائج استبيانات الرضا الوظيفي هي حصاد ما زرعته كمدير في مؤسستك، إن أردت نتائج مختلفة فغيّر طريقة تعاملك وابحث عن الأسباب الفعلية وعالجها، وإلا لن ينفعك تزوير النتائج «بالغصب» كما لن تتغيّر صورة ذاك القبيح في المرآة!

* كاتب إماراتي

Email