مستقبل أميركا ومحكمتها العليا

ت + ت - الحجم الطبيعي

الصخب الدائر بالولايات المتحدة منذ الإعلان عن تقاعد قاضٍ بالمحكمة العليا، وترشيح من يخلفه، مصدره الدور الخطير الذي تلعبه المحكمة في ترتيب مجمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والتغيير المرتقب في تشكيل المحكمة، يفتح الباب لحدوث تحولات راديكالية ستؤدي، على الأرجح، للتراجع عن الكثير من المكتسبات التي حققتها الأقليات والمرأة والعمال منذ الستينيات.

فالمحكمة العليا الأميركية، هي قمة هرم القضاء الفيدرالي، وهي المحكمة الوحيدة التي أنشأها الدستور الأميركي، في حين عهد للكونغرس بإنشاء كل المحاكم الفيدرالية الأدنى.

والمحكمة العليا باتت مسيسة على نحو لا تخطئه العين. ففي حالة خلو أحد مقاعدها التسعة، بوفاة أحد القضاة أو تقاعده بإرادته الحرة، يكون للرئيس حق اختيار من يخلفه، وهو الاختيار الخاضع لموافقة مجلس الشيوخ.

والرئيس يختار للمحكمة من يتفق معه في التوجه السياسي والأيديولوجي. ومجلس الشيوخ، هو الآخر، يوافق على من اختاره الرئيس أو يرفضه بناء على المعيار نفسه. ولأن أحداً لا يستطيع إقالة قاضٍ في المحكمة العليا، فإن فرصة اختيار قضاة المحكمة لا تتوفر لكل الرؤساء الأميركيين.

فقد تمر فترة حكم أحدهم بالكامل دون أن يشغر مقعد بالمحكمة العليا. وكل قاضٍ بالمحكمة يتخذ قراره بخصوص المعروض من قضايا، وفق مواقفه ورؤيته، الأمر الذي يجعل المحكمة ذات طابع سياسي بامتياز. غير أن الاستقطاب السياسي المتفاقم في أميركا، جعل اختيار القضاة مسألة أكثر تسييساً من أي وقت مضى، حتى إن المحكمة العليا صارت في ذاتها قضية انتخابية منذ بداية القرن الحالي.

ففي انتخابات 2000 الرئاسية، تحولت المحكمة العليا لقضية انتخابية، فكانت المفارقة أن المحكمة ذاتها هي التي حسمت مصير منصب الرئاسة، بعدما ظل معلقاً لأكثر من شهر، عقب الانتخابات التي لم يحسم التصويت فيها النتيجة. أكثر من ذلك، كان من حظ بوش الابن، الذي تولي الرئاسة، بموجب قرار المحكمة، أن اختار قاضيين جديدين للمحكمة العليا، فأعاد بذلك صياغة مستقبلها.

ثم تولى أوباما، الذي شغر في عهده مقعد بالمحكمة بوفاة أحد قضاتها. لكن مجلس الشيوخ ذا الأغلبية الجمهورية في ذلك الوقت، رفض حتى عرض مرشح أوباما على المجلس. وكانت حجة الجمهوريين وقتها، أنهم يريدون «ترك مستقبل المحكمة للناخبين». فهم كانوا يأملون في أن تؤدي الانتخابات الرئاسية التالية لوصول رئيس جمهوري للسلطة، بما يجعل لذلك الرئيس الحق في اختيار القاضي.

وقد ظل مقعد المحكمة شاغراً بالفعل، إلى أن تولى ترامب الرئاسة، فاختار بالطبع قاضياً معروفاً بتوجهاته اليمينية، وافقت عليه فوراً الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ. غير أن ترامب، مثله مثل بوش الابن، صار له الحق في اختيار قاضٍ ثانٍ للمحكمة، حين أعلن أحد قضاتها مؤخراً التقاعد. فرشح ترامب للمقعد قاضياً معروفاً هو الآخر بتوجهاته اليمينية.

المفارقة هي أن الأغلبية الجمهورية التي عطلت مرشح أوباما بدعوى «ترك الأمر للناخبين»، هي نفسها التي تصر اليوم على البت في أمر مرشح ترامب قبل الانتخابات التشريعية، لأنها قد تأتي بأغلبية من الحزب المنافس.

والطابع المسيس للمحكمة، لا يقتصر على تشكيلها، لأنها في الحقيقة تصنع السياسة العامة. وقضاتها يفسرون الدستور وفق رؤاهم الأيديولوجية. والتاريخ الأميركي نفسه يشهد بذلك.

فالمحكمة، التي كانت في القرن التاسع عشر، قد اعتبرت الفصل العنصري «دستورياً»، هي نفسها، بعد التحول الذي طرأ على تشكيلها، التي قررت أن ذلك الفصل ليس فقط مناهضاً للدستور، وأنما «يترك جروحاً» يصعب التئامها، على حد تعبيرها، في حكمها التاريخي عام 1954، الذي أنهي الفصل العنصري في التعليم.

والمحكمة التي تميل اليوم نحو اليمين، بواقع صوت واحد، قد صارت أكثر ميلاً للتراجع عن الكثير من حقوق الأقليات، بدءاً بتفسيرها للحق في التصويت، ومروراً بمراعاة الأقليات التي اضطهدت تاريخياً في التوظيف والتعليم والسكن، ووصولاً لحقوق المرأة، بما في ذلك قضية الإجهاض، التي تتخذ موقعاً مركزياً في الاستقطاب السياسي الأميركي.

فالمحكمة منذ عام 2013، اتخذت سلسلة من القرارات التي مثلت تراجعاً عن الحق في التصويت، سواء في ما يتعلق برسم الدوائر الانتخابية بما يتيح للأقليات اختيار ممثليهم، أو ما يتعلق بقدرة الولايات ذات التاريخ العنصري على حرمان الأقليات من التصويت. ليس ذلك فقط، بل أصدرت المحكمة مؤخراً، قراراً له تداعيات بعيدة المدى على حقوق العاملين، من مهنيين وعمال، وقدرة اتحاداتهم على التفاوض من أجل تحسين المعاشات والأجور.

لذلك كله، فإن شغل المقعد الجديد بالمحكمة، ستكون له تداعياته بعيدة المدى. ومن هنا، فإن الصراع السياسي الحالي، جوهره خشية جمهور واسع على مكتسباته، ورغبة قطاع آخر في إعادة صياغة الحياة الأميركية، ليس فقط في ما يتعلق بحقوق الأقليات والمرأة والعمال، وإنما على نحو يؤدي لاستعادة دور الدين في السياسة، بعد أن كانت المحكمة العليا ذاتها قد أسهمت في فصله عنها في جوانب عدة.

كاتبة مصرية

Email