التسوية الاقتصادية.. عود على بدء

ت + ت - الحجم الطبيعي

للصهاينة والإسرائيليين وأنصارهم في عالم الغرب قدرة فذة على إعادة إنتاج الأفكار والمشروعات؛ التي يأنسون فيها تحقيق مصالحهم، ولكنهم لم يتمكنوا من تمريرها في لحظة بعينها. التقاليد والخبرات تقول إنه إذا أطل هؤلاء القوم بخطط أو مشروعات، ولم تحالفهم الظروف والمعطيات لإنفاذها في مواقيت يرونها مواتية، فإنهم لا يلغونها ولا يمحونها من قاموس حركتهم، وإنما يعلقون العمل بها ويخبئونها في الأدراج، ويتحسسون الوسائل لإزالة العوائق على رجاء إحيائها وتفعيلها مجدداً.

هذه التعميمات تنطبق بحذافيرها على المبادرات الرامية إلى التحايل والالتفاف على الحقوق الفلسطينية، بابتداع تسوية أو أخرى تتخذ من المداخل الاقتصادية ومفاهيم تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين منطلقاً لها. فهذه المفاهيم والمشروعات المرتبطة بها تشبه المادة التي لا تفنى ولا تخلق من عدم. وهي بدأت مع إنشاء وكالة أونروا التابعة للأمم المتحدة، التي تعني وظيفتها حرفياً تشغيل اللاجئين الفلسطينيين وإغاثتهم فقط لا غير..

بين أوائل خمسينيات القرن الماضي ومنتصف ستينياته، تزاحمت في الآفاق «الشرق أوسطية» مبادرات ومشروعات التسوية الموصولة بمعالجة الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، مع الهجران الكامل للمضامين السياسية للقضية الفلسطينية.. ومنها بلا حصر، مشروعات بعثة غوردون كلوب (1949/‏‏1950) وبلانفورد ( 1951 ) ودالاس (1953 ) وجونستون ( 1953 ) وايدن ( 1955 ) وهمرشولد ( 1959) وجوزيف جونسون ( 1961 ).. ويلاحظ أن معظم أصحاب هذه الاجتهادات ينتسبون إلى الدوائر السياسية الأميركية، ما يشي بأن حديث صفقة القرن المتداول راهناً، له أصول وجذور في العقل السياسي الأميركي.

ومثلما كان الخط الناظم لهذه التسويات المقترحة هو انطلاقها من، أو تركيزها على، مفهوم الاقتصاد أولاً أو أولاً وأخيراً، فإنها جميعاً سقطت وفشلت بفعل صلابة الفلسطينيين وتصميمهم على الأخذ بعكس هذه المعادلة. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه هؤلاء الرافضون في أضعف حالاتهم وأكثرها حيرة ومعاناة من عدم اليقين وظلامية مشهدي الحاضر والمستقبل، فضلاً عن حاجتهم الماسة للعون الذي يتم التلويح به للخلاص من افتراش الأرض والتحاف السماء.

للإنصاف كان الظهير العربي القومي دوراً حاسماً في إسناد ذلك الموقف وعدم تجاوزه. من آيات الأهمية الكبرى لهذا المتغير العمل على ترميم الحياة الاجتماعية للفلسطينيين وتأطيرهم سياسياً، وتقديمهم للعالم بحيثية تنظيمية تستحق الرعاية الحقوقية، عبر إنشاء منظمة التحرير من ناحية، والوقوف خلف المنطق القائل بأولوية التسوية السياسية على ما اشتهر بالتطبيع الاقتصادي مع إسرائيل، وتثبيت هذه المعادلة بقرارات على مستوى القمم العربية، والاهتداء بها في مبادرة السلام العربية منذ العام 2002، وفتور التعاطي مع إطار المفاوضات متعددة الأطراف غداة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991..

ما الذي استجد الآن حتى شجع التحالف الصهيوني الأميركي الإسرائيلي على عرض قاموسهم القديم للتسوية الاقتصادية والمالية تحت عنوان ما يدعى ب «صفقة القرن»؟! الإجابة الأكثر تداولاً هنا تتعلق بالتحولات وورش الهدم والبناء الجارية في السياقين العربي والإقليمي البيني والداخلي، التي تصرفهما عن الهم الفلسطيني وتوابعه. والأهم أن بعض وحدات الحاضنة العربية باتت متهيئة لإبرام الصفقة، رضي الفلسطينيون أم أبوا، بهدف تحقيق مكاسب أو اتقاء لخسائر ذاتية. هذا علاوة على أن الفلسطينيين أنفسهم محشورون في زقاق الخلاف والتنازع، بينما كان الأولى بهم أن يصلحوا ذات بينهم، قبل أن يطالبوا غيرهم بالالتزام بثوابتهم ومراداتهم.

يلوح غاري كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي ترامب وأحد أبرز عرابي الصفقة اياها، بالمزايا والعطايا التي تنتظر المحيط العربي من وراء التسوية العتيدة، قائلا إن «الخطة الاقتصادية التي تسهر عليها إدارة رئيسه كجزء من الصفقة، تتضمن استثمارات ضخمة لا تقتصر على الفلسطينيين، وإنما تمتد لشعوب عربية بجوارهم».

إنهم لا يملون ولا ينسون وإنما يتحينون الفرص للإطلال على الخلق ببضاعتهم المغشوشة المزجاة.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email