المهاجرون لأميركا بين الحاضر والماضي

ت + ت - الحجم الطبيعي

العاصفة السياسية التي شهدتها واشنطن بسبب تفاعلات قضية الهجرة، وصور الأطفال الصغار الذين تم فصلهم عن ذويهم وإيداعهم ما يشبه المعسكرات، تأتي في إطار موجة عداء للأجانب والمهاجرين ليست هي الأولى من نوعها فى تاريخ الولايات المتحدة.

فعلى مدار التاريخ الأميركي، لا تكاد موجة من موجات الهجرة من أماكن مختلفة من العالم تسلم من مثل ذلك العداء.

وأصل الحكاية أن وزير العدل، جيف سيشنز، كان قد أصدر تعليماته بأن تتولى النيابات الفيدرالية توجيه الاتهام لكل من يعبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة بشكل غير قانوني، الأمر الذي أدى لارتفاع نسبة الأطفال، وبعضهم من الرضع، الذين تم فصلهم عن ذويهم لأكثر من 2400 في شهر واحد.

فالقرار كان معناه القضاء على حرية حركة مسؤولي الهجرة، القابعين على الحدود، في اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان عابر الحدود لاجئاً أم مهاجراً غير شرعي.

وقد كانت حرية الحركة تلك تسمح لأولئك المسؤولين ببدء أولى مراحل الإجراءات المدنية لطالبي اللجوء بما يسمح للأسرة أن تظل وحدة واحدة لحين الفصل في الأمر. أما بعد القرار فقد صار كل عابر للحدود مع المكسيك مدرجاً في النظام الجنائي.

وقد أثارت تلك السياسة عاصفة من الانتقادات لم يكن سببها الوحيد هو أوضاع الأطفال اللاإنسانية داخل تلك المعسكرات، وإنما كان سببها أيضاً انعدام الحس السياسي والثقافي لدى الكثير من رموز إدارة ترامب.

فبعد أن كان الرئيس نفسه قد أعلن أنه يكره فصل الأطفال عن ذويهم، عاد ليدافع عن تلك السياسة بقوة ويعتبرها «ضرورية» لحماية الأميركيين، ثم قام، بعدما تزايدت الضغوط، بإلغائها بجرة قلم. وقد دافع، قبله، عن السياسة نفسها وزير العدل التي قال إنها تهدف إلى «ردع» كل من تسول له نفسه عبور الحدود بشكل غير قانوني.

وبينما تهكم رئيس حملة إعادة انتخاب ترامب على طفلة مريضة انتزعت من أهلها، ناقضت وزيرة الأمن الداخلي، كيرستن نيلسن، صراحة ما قاله وزير العدل حين أنكرت أن الهدف هو «الردع».

والوزيرة نفسها قدمت نموذجاً صارخاً لانعدام الحس السياسي وغياب الوعي بالحساسيات الثقافية. فالأزمة الإنسانية التي نتجت عن سياسات الإدارة تدور كلها عند الحدود مع المكسيك. والذين يعبرون تلك الحدود، أملاً في حياة أفضل أو هرباً من عنف في بلادهم، يأتون من بلدان كثيرة في أميركا الوسطى والجنوبية وبعضهم بالقطع يأتي من المكسيك، التي كان قد اختصها ترامب أثناء الحملة الانتخابية بمقولات فجة، بدءاً باتهامها بتصدير «المجرمين والمغتصبين» ووصولاً للتعهد ببناء جدار عازل على الحدود معها يتم إجبارها على دفع تكلفته.

فإذا بالوزيرة، في خضم أزمة إنسانية تقع المكسيك في القلب منها، تختار لتناول العشاء مطعماً مكسيكياً لا أقل. وكأن الولايات المتحدة تريد الاستمتاع بثقافة الجنوب دون أهله.

غير أن الحقيقة التي لا يجوز إغفالها هي أن الولايات المتحدة، التي يفاخر كل مسؤوليها بأنها «أمة من المهاجرين»، شهدت عداوة، أحياناً ذات طابع رسمي، لكل موجات الهجرة التي دخلتها.

ولا يوجد مثال أكثر وضوحاً على مثل ذلك العداء «الرسمي» من قانون «استبعاد الصينيين» الذي كان الكونغرس قد أصدره عام 1882 لحظر هجرة الصينيين إلى الولايات المتحدة.

فبعد أن كان المهاجرون الصينيون، من العمالة الرخيصة، قد شيدوا السكك الحديدية الأميركية، برز ما صار يعرف «بالخطر الأصفر»، أي اعتبار أصحاب البشرة «الصفراء» خطراً تم وصفه حينها بالخطر «الصحي» وأحياناً «الأمني»، وهو العداء الذي بدأ شعبياً أول الأمر ثم اتخذ طابعاً رسمياً بصدور القانون.

وقد تلا الصينيون في مسألة «الخطر الأصفر» اليابانيين، الذين فرض الرئيس تيدي روزفلت على أطفالهم، صراحة، فصلاً عنصرياً، بحيث لم يسمح لهم سوى بالالتحاق بمدارس الصينيين.

والعداء للمهاجرين، في التاريخ الأميركي، لم يقتصر على الشعوب غير البيضاء. فقد تعرض قبلهم الأيرلنديون لاضطهاد في موجاتهم الأولى للهجرة، حتى إن اللافتات كانت تقول «لا عمل للأيرلنديين». والبولنديون واليهود والإيطاليون، لم يكونوا أفضل حظاً حيث لاحقهم الاضطهاد والسخرية، باعتبارهم أدنى درجة.

المفارقة في العاصفة السياسية الحالية هي أن تلك ليست المرة الأولى التي تجد فيها المكسيك وأهلها أنفسهم في مرمى النيران الأميركية. فهناك قطاع واسع من الأميركيين ذوي الأصول المكسيكية لم يهاجروا أصلاً للولايات المتحدة وإنما صارت أرضهم جزءاً من الولايات المتحدة.

فبعد الحرب الأميركية المكسيكية، ضمت الولايات المتحدة مساحات شاسعة من أرض المكسيك لها (تكساس وكاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو) فوجد أولئك المكسيكيون أنفسهم فجأة يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.

ورغم أن هناك فترات محدودة من التاريخ الأميركي كان فيها المناخ العام والقانون مواتياً للهجرة، إلا أن المتيقن هو أن العداء للمهاجرين ظل، طوال التاريخ الأميركي، يأتي في أغلبه مصاحباً، ليس للأزمات الاقتصادية، وإنما لتصاعد موجات العنصرية والعداء للأجانب.

Email