النظام العالمي السياسي والرياضي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أكثر من جانب، يبدو أن النظام الكروي (كرة القدم) في العالم، الذي تجري فعالياته في روسيا هذه الأيام، يتشابه مع النظام السياسي الدولي من عدة نواح: فهناك اختفاء لمكانة دول كبرى كما أن هناك تراجعاً في تأثيرها رغم أنها عريقة في هذا المجال ولكن لديها بعض الأمل للعودة لدورها.

فكما اختفى دور دول كان لها تأثير في السياسة الدولية أو في إقليمها مثل بريطانيا بعد «بريكست»، فإن إيطاليا تغيب لأول مرة منذ 60 عاماً عن بطولات كأس العالم ولم يسعفها تاريخها الكروي وعراقة فرقها في الوصول إلى نهائيات كأس العالم في روسيا مع أنه حتى في الخيال لا يمكن تقبل الفكرة.

وبما أنه يبدو لنا أن العالم إزاء خرائط سياسية جديدة في العالم وخرائط جغرافية مختلفة فإن الأمر يشمل الخرائط الرياضية أيضاً، وإذا كانت كواليس مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم وتحليلات المراقبين السياسيين على شكل هنري كيسنجر ينبئون بأن هناك إعادة تشكيل للقوى، فإنني أعتقد أن الأمر لن يكون بعيداً عن استديوهات التحليل الرياضي خلال الأدوار القادمة.

بل إنه يمكن رؤية ملامح لمنتخبات قيادية جديدة في كرة القدم كما هو الأمر في الجانب السياسي حيث ظهرت قوى إقليمية عربية مثل المملكة العربية السعودية ومثل فرنسا أوروبياً حيث بدأت في محاولة استعادة دورها التقليدي في أفريقيا والشرق الأوسط وألمانيا التي تسعى الإحلال مكان بريطانيا في فترة ما بعد بريكست، أو الهند وكذلك الصين التي بدأتا تمثلان قلقاً على الدول الكبرى تقليدياً مثل الولايات المتحدة.

إذاً لسنا على ثقة كاملة من أن الدول التقليدية في الرياضة مثل الأرجنتين التي وضعت نفسها أمام أمل ضعيف في الصعود إلى الدور الـ16 بعد هزيمة أقرب للإهانة من كرواتيا بثلاثة أهداف دون مقابل. وإذا كانت ألمانيا بطلة العالم أفضل حالاً من الأرجنتين إلا أن هزيمتها من المكسيك في المباراة الأولى تعطي انطباعاً أن «الكبار» لم يعودوا بتلك الهيبة والمكانة فكل شيء في عالم الكورة كما السياسة وارد.

للأسف أن الثابت في النظامين السياسي والكروي هم العرب، فمثلما بقي النظام السياسي العربي خارج الحراك الإقليمي والدولي حتى فيما يخصه من قضايا مثل التدخل الإيراني في الشأن العربي والتسابق الدولي على تقاسم مناطق نفوذ في منطقة الشرق الأوسط بل وتفتيت بعض الدول مثل العراق وسوريا فإن الحال الرياضي العربي لم يختلف كثيراً فقد خرجت المنتخبات العربية الأربعة من الدور الأول ولَم تحقق أية نتيجة إيجابية تسعد فيها جماهيرها المنتظرة لأي أمل يفرحها.

لقد سجلت دول ومدربون حضوراً كروياً في هذه البطولة نالت إعجاب الرأي العام العربي والعالمي، لأنها استطاعت أن تغير في «موازين القوى» الكروية مثل المكسيك التي هزمت ألمانيا أحد المرشحين لنيل البطولة، والبرتغال تعادلت مع أسبانيا، وأيسلندا تعادلت مع الأرجنتين في حين سويسرا أحرجت البرازيل وأبكتهم فرحاً بعدما حققوا فوزاً صعباً على كوستاريكا.

وإذا كانت معالم تشكل النظام الكروي الجديد في بداياته ويحتاج إلى وقت فإن تشكل النظام الدولي السياسي والإقليمي أيضاً هو في مراحله الأولى إلا أن النظام الكروي أعتقد أنه أسهل وسيكون أسرع لأن جرأة الرياضيين أكبر من السياسيين ربما لأن حجم الخسائر السياسية أكبر.

الخلاصة، مثلما انقلبت الكثير من موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية فإن المفاهيم الرياضية والثقافية هي الأخرى بدأت تتغير، وإذا كانت دول كبرى تراجعت في مكانتها فهناك دول أخرى حققت نجاحات في المجالات المختلفة مثل دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية اللتين سجلتا حضوراً سياسياً وعسكرياً وثقافياً في مجالات مختلفة.

فهل سنرى دولاً تنتقل من دول تصنف أنها «ناشئة» في المجال الرياضي إلى دول متقدمة تمتلك جرأة المنافسة والتغيير كما يحدث في السياسة حالياً في دول عديدة من العالم بعدما تجاوزت الاعتماد على: الحجم الجغرافي والسكاني كمقياس، والتاريخ باعتباره عاملاً لمخاطبة الآخر بالفوقية والغطرسة، والاسم كون أن كل شيء اليوم يتم صناعته.. لكن يبقى الأمر على قدر اجتهاد كل دولة!!.

Email