قمة سنغافورة وميزان الداخل الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم أهمية المتابعة العالمية لوقائع القمة الأميركية الكورية، وما سيليها من مفاوضات قد تستغرق سنوات، إلا أن ردود الأفعال داخل أميركا نفسها لا تقل أهمية، إذ بدونها يصعب توقع أداء المؤسسة التنفيذية الأميركية في تلك المفاوضات.

فالرئيس الأميركي، أي رئيس، يدير علاقات بلاده الخارجية، وعينه لا تبارح الداخل الأميركي. وهو، حين يكون في ولايته الأولى، يحرص كل الحرص على مراكمة إنجازات داخلية وخارجية، يستطيع أن يستخدمها لحظة التقدم لإعادة انتخابه. وهو الأمر الذي لا يستطيع تحقيقه من دون مساعدة المؤسسة التشريعية الأميركية.

ويصدق ذلك على الرئيس ترامب، مثلما يصدق على غيره ممن سبقوه، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بنتائج قمة، هي الأولى من نوعها. فترامب لم يخفِ أبداً أنه يعتبر تلك القمة التاريخية، إنجازاً غير مسبوق، حققته إدارته، بينما «فشل فيه» سابقوه من رؤساء أميركا.

ومن هنا، باتت ردود الفعل الصادرة عن الكونغرس تحديداً، بالغة الأهمية، إذ من الواضح أن المؤسسة التشريعية عازمة على أن يكون لها الكلمة الفاصلة في أي اتفاق سيتم التوصل إليه مع كوريا الشمالية.

وقد صدرت تلك التصريحات، ليس عن الحزب الديمقراطي، المعارض لترامب، وإنما عن رموز الحزب الجمهوري، حزب الرئيس. فقد صرح متش ماكونيل، زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ، بأنه «إذا ما توصل الرئيس لاتفاق معتبر مع كوريا الشمالية، أتمنى أن يأخذ (ذلك الاتفاق) شكل المعاهدة».

فالمعاهدات لا تكون ملزمة للولايات المتحدة، إلا بعد تصديق المجلس عليها بأغلبية الثلثين. وقد أكد على المعنى ذاته، عدد من أعضاء حزب الرئيس، كان منهم السناتور جون كورنين، عضو لجنة الاستخبارات بالمجلس، بقوله إنه من المهم أن يمنح الكونغرس لأي اتفاق «ختم الموافقة».

ووراء موقف أعضاء الحزب الجمهوري، أسباب تذهب لما هو أبعد من حرص المؤسسة التشريعية الأميركية على ممارسة صلاحياتها الدستورية، في مقابل الرئاسة. فالحزب الجمهوري يدرك جيداً كم كان سهلاً على ترامب أن يلغي بمفرده التزام الولايات المتحدة بالاتفاق الدولي، الذي كان أوباما قد أبرمه بخصوص البرنامج النووي الإيراني.

فأوباما لم يعرض الموضوع على الكونغرس، ووقّع عليه في صورة «أمر تنفيذي»، لا يلزم تصديق مجلس الشيوخ عليه.

ومن ثم، فإن المؤيدين لإبرام اتفاق مع كوريا الشمالية من الجمهوريين، لا يريدون المصير نفسه للاتفاق، حال جاء للحكم بعد ترامب رئيس يعارض الاتفاق.

وهو المعنى الذي قصده السناتور كورنين، بقوله إن "ختم الموافقة" من الكونغرس على الاتفاق "يضمن الإبقاء عليه لمدة طويلة". ومن بين الأعضاء الجمهوريين الذين عارضوا تجاهل أوباما للكونغرس بشأن الاتفاق الإيراني، كان السناتور رون جونسون، الذي يصر اليوم على تصديق مجلس الشيوخ على أي اتفاق مع كوريا الشمالية، مؤكداً أن فشل مثل ذلك الاتفاق في الحصول على تصديق المجلس، معناه "أن هناك ما يشوب" ذلك الاتفاق.

غير أن هناك سبباً آخر لعزم الجمهوريين على أن يكون للكونغرس الكلمة الفاصلة. فالحزب الجمهوري ظل دوماً حزب صقور السياسة الخارجية بأميركا. وهناك من أعضاء الحزب من وجدوا في مجريات القمة الأميركية الكورية الشمالية ما يثير القلق.

فلم يقتصر الأمر على انتقاد بعضهم صراحة لتأكيد ترامب على ثقته في رئيس كوريا الشمالية، التي اعتبروها سابقة لأوانها. فالأهم من ذلك، كان تصريح ترامب بعزمه على تعليق التدريبات المشتركة التي تجريها القوات الأميركية مع قوات كوريا الجنوبية، وعدد آخر من الحلفاء، كاليابان وأستراليا، بل وإعرابه عن رغبته في سحب القوات الأميركية من شبه الجزيرة الكورية.

فرغم أن السناتور جوني إرنست، أكد على أن القمة كانت ناجحة "بكل المقاييس"، إلا أنه أكد بالقوة نفسها، على أن هناك ضرورة لبقاء القوات الأميركية هناك.

وإصرار مجلس الشيوخ، المنوط به دستورياً التصديق على المعاهدات، على أن يكون له الكلمة الفاصلة، من شأنه أن يضع قيداً على أداء ترامب. فهو يعني أن على الرئيس، حتى يضمن الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة للتصديق على المعاهدات، أن يُطلع المجلس، طوال مرحلة التفاوض مع كوريا الشمالية، على مجريات التفاوض.

وأغلبية الثلثين تعني أن عليه التواصل، ليس فقط مع أعضاء حزبه، وإنما مع قيادات الحزب الديمقراطي أيضاً، الذي سوف يحتاج لأصوات بعضهم عند التصويت، الأمر الذي قد يفرض تعقيدات إضافية على تلك المفاوضات، خصوصاً في عام انتخابات تشريعية، كالعام الجاري.

والناخب الأميركي، على ما يبدو، سبب آخر وراء إصرار الكونغرس على ممارسة صلاحياته. فبينما يؤيد حوالي نصف الناخبين المسار الدبلوماسي الذي اتخذه ترامب، فإن 29 % فقط، هم الواثقون "بقوة" في قدرته على "التعامل مع كوريا الشمالية"، بينما أكدت نسبة ضئيلة تقل عن 20 %، ثقتها في إمكانية أن تتخلى كوريا الشمالية فعلاً عن سلاحها النووي.

Email