لله في خلقه شؤون

ت + ت - الحجم الطبيعي

على سفن الأحلام، نعبر جميعاً رحلة الحياة. هناك من يعترف بأن أحلامه كبيرة وممتدة، إلى درجة أن سنوات العمر قد لا تتسع لها، وهناك من يعترف بأن أحلامه متواضعة ومحدودة.

وبينما يربط البعض سعة الأحلام بالطموح والجشع، فإن البعض الآخر يرى أن لها علاقة بالقناعة والرضا، ولكل من الطرفين مبرراته وأدلته.

نقرأ كثيراً عن بعض الأشخاص الذين هاجروا إلى بلدان تمنح فرصاً كبيرة، فنعجب كيف وصلوا إلى هذه البلدان وهم شبه معدمين، ثم استطاعوا خلال سنوات قليلة أن يكوّنوا ثروات ضخمة، ويصبحوا من أصحاب الملايين والمليارات، ونستغرب كيف لم يستطع أن يفعل هذا الكثير من أصحاب تلك البلدان.

هذا طرح ليس له علاقة بالحسد، ولكنه سؤال يطرحه الموقف، ويتكرر كلما زاد عدد هذه المواقف، فنشاهد نماذج من هؤلاء الذين يفرضون أنفسهم على المشهد، ويجعلوننا نطرح أسئلتنا المحيرة هذه.

شاهدت قبل أيام مقطع فيديو صوّره أحد نشطاء التواصل الاجتماعي، يتحدث فيه شخص من جنسية آسيوية عن نفسه، فيذكر أنه وصل إلى الإمارات سنة 2008، مع الأزمة الاقتصادية، التي عصفت بالعالم كله وقتها، وهو لا يملك شيئاً إطلاقاً. يسأله الناشط عن دخله الآن، فيقول إنه يتراوح بين مليون ومليوني درهم شهرياً!، فيردد بعضنا: اللهم لا حسد، ويمتنع البعض عن التعليق.

ذكّرني هذا الفيديو بقصة الدكتور «شيتي»، التي نشرتها البيان قبل ثلاث سنوات، وقال فيها إنه وصل أبوظبي عام 1973، باحثاً عن فرصة عمل، ولم يكن بحوزته سوى 8 دولارات، بغرض تسديد الديون التي تراكمت عليه في الهند، والتي بلغت وقتها 150 ألف روبية هندية، فأصبح الآن يملك سلسلة مستشفيات «NMC» المعروفة، ومركز الإمارات للصرافة (UAE Exchange)، ومصنع «NEOPHARMA» للأدوية!

على الجانب الآخر، هناك من ينظر إلى الحياة بشكل مختلف، إذ يُحكى أن مليارديراً أميركياً في أواخر الستينيات من عمره، رأى بعد سنوات من العمل والكدح، أنه قد حان الأوان للراحة والدعة، فأخذ يتنقل من بلد إلى آخر، يستمتع بالمناظر الخلابة والجو البديع.

وذات يوم، وبينما كان يجلس على كرسيه الوثير، في الفناء الواسع، أمام أحد منازله الفاخرة على أكبر أنهار المكسيك، لفت نظره صياد مكسيكي بسيط الحال، منهمك في الصيد.

نظر رجل الأعمال إلى حال ذلك الصياد، فوجد مركب صيد قديماً متهالكاً، وأدوات صيد بدائية، وبجانبه كمية قليلة من السمك.

ولما رأى الصياد يجمع أدواته ويهم بالانصراف، تعجب، ودعاه ليتحدث إليه، فلما جاءه سأله: كم تحتاج من الوقت لاصطياد مثل هذه الكمية من السمك؟، قال الصياد: أحياناً دقائق قليلة، وأحياناً يصل الأمر إلى ساعتين يا سيدي.

سأل الملياردير: فقط؟، أومأ الصياد برأسه مجيباً، فعاد الملياردير يسأل: ولماذا لا تقضي وقتاً أطول في الصيد، فتصطاد كميات أكثر، وتكسب المزيد من الأموال؟، أجاب الصياد: ما أصطاده يكفيني وزوجتي وأبنائي، وحينما أريد شراء شيء أستزيد من الصيد لأشتريه. تعجب الملياردير وسأله: بهذه البساطة؟!، قال الصياد بهدوء: نعم يا سيدي.

أنام ما يكفيني من الوقت.. أصحو نشيطاً.. أصطاد ما يكفي حاجتي.. أعود لأنام القيلولة.. أصحو لأهتم بصغاري وزوجتي، وفي الليل أتجول أحياناً مع الأصدقاء في القرية، ونجلس كي نتسامر في الليل. يا سيدي أنا حياتي مليئة، ولا أحب أن يطغى عليها العمل. هز الملياردير العجوز رأسه ثم قال له: سوف أسدي لك نصيحة غالية، فأنا رجل منحته سنين عمره الطويلة خبرات كبيرة.

أولاً: يجب أن تقضي غالب يومك في الصيد، حتى تتضاعف كمية ما تصطاده، وبالتالي، يتضاعف ربحك. ثانياً: بعد فترة الادخار، ومع تقدمك المادي، تشتري مركباً أكبر وأحدث، فتجني أرباحاً أكبر.

ثالثاً: يمكنك بعد ذلك بفترة، ومع ادخار أرباحك، أن تشتري عدة قوارب للصيد.

رابعاً: ستجد نفسك بعد فترة ليست كبيرة، صاحب أسطول بحري كبير. وبدلاً من قضاء الوقت والجهد في بيع السمك مباشرة للناس، ستبيع للموزعين فقط.

وأخيراً: وبعد كل هذا النجاح، ستستطيع وبكل سهولة، أن تُنشئ مصانع التعليب الخاصة بك، والتي يمكنك بها التحكم في إنتاجك من الأسماك وكميات التوزيع أيضاً. وهكذا من نجاح إلى آخر، حتى تصبح مليونيراً أو مليارديراً كبيراً، يُشار إليه بالبنان مثلي. هذه هي السعادة الحقيقية يا رجل.

صمت الصياد لثوانٍ، ثم سأل الملياردير العجوز: ولكن كم أحتاج من الوقت لتحقيق ذلك؟، ضحك الملياردير وقال: هذا يرجع إلى مدى مهارتك وحنكتك في التعامل مع الحياة، ولكني أرى أنه ما بين 15 إلى 20 عاماً فقط. عقد الصياد حاجبيه وهو يسأل: وماذا بعد؟، لمعت عينا الملياردير وهو يقول: تملك ملايين الدولارات أيها الرجل.

نظر الصياد إلى المليونير ثم عاد وسأله: وماذا بعد؟، نظر الملياردير إلى الصياد بتعجب، وأجاب: تترك التجارة والشقاء لأبنائك، وتستمتع بما بقي لك من العمر، تسترخي في منازل فاخرة في أجمل بقاع الأرض، تستمتع مع زوجتك وأبنائك وأحفادك، تنام القيلولة التي أردت، وتلعب مع أحفادك، تفعل كل ما تريد يا رجل.

تبسم الصياد وهو يقول في هدوء: تريد مني أن أقضي ما يقرب من 20 عاماً من عمري كادحاً في عمل متواصل، لا أرى أبنائي وزوجتي إلا قليلاً، لا أستمتع بوقتي ولا بصحتي، ولا حتى بأموالي، كل ذلك أضحي به لأصل في النهاية إلى ما أنا عليه الآن؟!

سيقول البعض: لله في خلقه شؤون.

Email