القدس في روايتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

في محاججاتهم الموصولة بقضية القدس مساراً ومصيراً، عادة ما يجادل الصهاينة والإسرائيليون بأن المدينة تقع ضمن ميراثهم التاريخي والديني، الذي يعود إلى ملك بني إسرائيل واليهود قبل ثلاثة آلاف عام. وبعد أن يمضي هؤلاء في الاعتماد على روايتهم، التي تخلط وحي السماء بفعل البشر، يذهبون إلى أنه ليس لليهود عاصمة سوى القدس.

يصح تقويض هذه الرواية من الأصل، برفض المنطق الذي تقوم عليه، وذلك على اعتبار أن خرائط عالمنا المعاصر، لا تقبل إعادة النظر والصياغة ورسم الكيانات وفقاً للسير الذاتية للأمم والشعوب، كما كانت قبل آلاف السنين. ومن حكمة الأفارقة، أنهم يرفضون إعادة تخطيط خرائط دولهم وحدودها، التي ورثوها عن عهود الاستعمار قبل عشرات السنين لا أكثر.. معتبرين أن إصلاح هذا العوار، سوف يثير شياطين الخلافات والصراعات داخل الدول وفي ما بينها.

المفارقة أنه حتى لو تغاضينا عن هذه القناعة، وسايرنا الزعم الصهيوني بشأن السيرة التاريخية لزهرة المدائن، وجدنا رواية مغشوشة، مصنوعة في خيال أصحاب ذوات متضخمة، إنهم يتحدثون، مثلاً، عن الممالك اليهودية البائدة، وكأنها حقيقة ينبغي التسليم بها.. هذا في حين يجافي حديثهم العقلانية وأحوال ذلك الزمن لأكثر من سبب ومبرر.. منها أن وجود تلك «الممالك» كان طارئاً ووافداً من الخارج، بينما كانت المدينة عامرة بشعبها المؤسس الأصيل من العرب الكنعانيين.

ومنها، وهذا مهم جداً، أن تلك الممالك والدول المزعومة، لم تكن ذات بال ولا مكانة، قياساً بالقوى الإمبراطورية صاحبة الحول والطول، كالبابليين والآشوريين والفرس والرومان وقدماء المصريين.. ألم يلحظ المؤرخون الصهاينة الأشاوس، معاني الذل والهوان، التي تنطوي عليها قصة السبي البابلي الأول والثاني، عامي 597 و586 قبل الميلاد، لممالكهم بقضها وقضيضها؟!. ترى، لو كانت تلك الممالك على قدر من الجاه والرسوخ والقوة في القدس أو في عموم فلسطين، أكان يعقل اقتلاعها وسوقها للخارج لمرتين خلال عقد واحد من السنين؟!

الأقرب للمنطق أنها كانت مجرد حارات أو أزقة مهيضة الجناح، عبرت في أفق المدينة ومحيطها لفترة محدودة. يدل على هذا العبور السطحي، أن القدس العتيقة، داخل الأسوار الشهيرة، تفتقد لأي أثر مهم يدعم الرواية الصهيونية. هذا إلى الدرجة التي شهدت فيها لجان دولية محايدة، عامي 1930 و2016، بأن الحائط الغربي للمسجد الأقصى، حائط البراق، الذي يدعوه اليهود بـ «حاط المبكى»، يخص المسلمين وحدهم، ولا صلة لليهود به على الإطلاق.

في أحد رسائله لعام 1878، يصف القنصل الأميركي في القدس، حال اليهود بالمدينة قائلاً «إنهم فقراء كسالى، ضعاف العقول والأجسام.. ويبدو أن القدس محطة يتلاقى فيها اليهود المشوهون والعجائز، ليعيشوا على التسول والإحسان، وليقضوا بقية أعمارهم ينوحون أمام حائط المبكى».

إلى شهادة هذا الدبلوماسي الأريب، ثمة حقيقة سياسية، تؤكد عجاف الجماعة اليهودية في المدينة. ففي آخر انتخابات لمجلس المبعوثان (النواب) العثماني، جرت عام 1914، دفع الصهاينة بمرشح يهودي لينافس على مقعد القدس، لكنه فشل فشلاً ذريعاً لضعف وجود اليهود ومؤسساتهم ونفوذهم في المدينة.

هذا الضعف والهزال لم ينقلب لاحقاً إلى قوة منافسة، إلا في ضوء سياسة الانتداب البريطاني، المرتبطة بتطبيق وعد بلفور منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى إعلان إسرائيل الدولة عام 1948.

المدهش، أن هذه السياسة العاطفة بقوة على إزاحة مركزية المدينة فلسطينياً، لم تفلح في تحقيق مراداتها إلا جزئياً فقط، بحيث ظل حالها المطبوع متغلباً على حالها المصنوع. وقد تأكد ذلك في رسالة للوسيط الدولي الكونت فولك برنادوت (6/7/1948)، ذكر فيها أن «القدس تقع في قلب ما يجب أن يكون إقليماً عربياً في أي مشروع لتقسيم فلسطين.. وأي عزل لها سياسياً عن هذا الإقليم، يثير مصاعب جمة..».

جاء هذا التقدير الذي اغتيل الرجل على أثره، بناء على قراءة دقيقة لمكانة المدينة في الرحاب الفلسطينية، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، علاوة على أهميتها الدينية الروحية، وموجزها أنها قلب فلسطين، وعاصمتها وطليعة مدنها وحواضرها.

ولمن يدعي اليوم أنه لا عاصمة لليهود غير القدس، نقول إن لهم عواصم بعدد الدول التي يقيمون فيها كمواطنين أقحاح. على حين أنه ليس للفلسطينيين من عاصمة سواها.

Email