مطلوب منقّح للتاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين أعمق الفقرات والمعلومات التي قدمها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أثناء إلقائه محاضرة عن «جذور أدب اللغة العربية»، عندما استقبل الإعلاميين بتاريخ 31 مايو الماضي، حيث قال «المطلوب ليس التركيز على التاريخ، إنما التركيز على ما في التاريخ، لأن التاريخ نفسه مكتوب مع الأسف حسب أهواء السلطة، وللأسف، وكل ما قيل وكل ما كتب، هو عبارة عن أحداث دول، وتأتي دولة أخرى وتلعن أختها، ونحن نسجل هذه الأحداث، والكُتاب يرتزقون من هذه الكتابة، والمشكلة من يأتي لينقح هذا التاريخ، والله لو أعطيت لأنسفه نسفاً».

لم تكن هذه الفقرة، والتي تحمل في دلالاتها إشارات واضحة من سموه، وهو المتمكن والعالم في دراسة التاريخ وعلومه وحضاراته ووقفاته، لم تكن مجرد معلومات عابرة، يقدمها لجمهوره من الإعلاميين، إنما هو مطلب مهم، يوجه فيه الإعلاميين ليضعوا أصابعهم على أخطر المعلومات، والتي كنا نتداولها على استحياء في ما مضى، ولكن، لأن دولتنا قررت مكاشفة الباطل بالحق، وإظهار الحقائق، حتى وإن كانت مؤلمة بالنسبة للبعض، جاءت كلمات سموه، لتكون نبراس أمل، لعلنا نفتح ملفات مغبرة تكتب ثقافات مبنية على باطل، لأن أساسها مبني على التزييف، كما وضح سموه.

الخطورة تكمن، ليس فقط في أن التاريخ بعضه مزيف، إنما أيضاً في أننا مستمرون في نسخه ولصقه والاستنجاد به والبكاء على أطلاله، من دون أن نحرك ساكناً في قراءته، ونحلل ما جاء فيه بكل حيادية، نستخلص منه العبر، ونقف على عثراته وأخطائه، بدلاً من المكابرة والتعنت في التعاطي مع هذا الكم الهائل من المعلومات والحوادث والشخصيات، والتي كتبت تجاربها الإنسانية وحالها، كحال أي مرحلة في التاريخ، لها نقاط صوابها، وفيها أيضاً أماكن ضعفها وتخلخلها، وما علينا إلا أن نتفحص ونتعلم من هذه التجارب، بما يخدم حاضرنا، ومستقبل أمتناً، بعيداً عن أمجاد الماضي، فنحن نعيش الحاضر، وما يجب أن نجلبه من تاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى، ما يفيدنا ويعطينا الفرصة للتقدم والرقي إلى الأفضل، وليس ما يعيق مسيرتنا، ويحد من تحركاتنا نحو الأمام.

في كلمات سموه، إشارات ودلائل لا حصر لها، فمنذ أن رُفع السيف، ونحن نكتب تاريخ وأمجاد وبطولات، بعضها مزيفة، بعيدة كل البعد عن أصل الرسالة السماوية، والتي جاءت لإعلاء كلمة الله، وكلمة الحق التي جاءت بكتابه القرآن الكريم، ولم تأتِ برفع السيف والقتل والاقتتال، إنما جاءت بمنهج السلم السليم، الذي يأخذنا إلى بحور من العلم والمعارف، ولكن عندما يُرفع السيف، لن يصلك من ضلاله إلا قطرات الدم.

مطلوب منقح للتاريخ، يستخلص لنا العبر من تاريخنا الحافل، كما نحب أن نسميه، والمطلوب من يفصل بين السواد والبياض بكل حيادية، ويكتب لنا تاريخاً بعيداً عن أيادي السلطات المستبدة وكتابها، الذين استرزقوا ذهباً من حروفهم المدلسة المزيفة، فرفعوا من شأن هذا، وأنزلوا شأن ذاك، كما أرادت سلطاتهم ومكاتب المعاقل في دولهم.

اليوم، نحن نعيش في عصر الانفتاح، ولدينا من الأدوات ما يمكننا من مراجعة هذا التاريخ، وإعادة تدوينه بأعمال أدبية درامية سينمائية، كما هو في حقيقته، بعيداً عن التزييف، ولنعطي لأجيالنا القادمة مادة دسمة من تاريخ حقيقي ناصع، يستدلون من خلاله كيفية مواجهة المستقبل، نعطيهم بذرة تعينهم على صراعات المستقبل، وسرعة دوران الحياة الحديثة، بدلاً من تاريخ معيق بطيء، يقيد الأفكار ويحجب النور عن العقول.

صاحب السمو حاكم الشارقة، وجّه بوجوب حث مؤسساتنا البحثية المتخصصة في حفظ التاريخ، لوجوب مراجعة هذا التاريخ، وحفظ أمجاد الأمم، ولكي نقوم بهذه الخطوة، علينا أولاً أن نعي أن التاريخ مهما كان، فهو غير مرتبط بالضرورة بالدين، حتى لا يسمح لنا انتقاده أو تحليله أو الوقوف على أخطائه، فالتاريخ مراحل ودول وشخوص، قد تصيب في نقطة، وقد تخيب في نقاط أخرى، أما الإسلام، فهو تعاليم الحكيم العزيز، والتي لا تحتمل الخطأ ولا التشكيك في صوابها، ولكن التشكيك بكيفية تطبيقها وتأويلها، كما تريد السلطة وكُتّاب تاريخهم.

 

 

Email