الصين ورياح التغيير في المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

القلق على ما يمكن أن يحدث في المنطقة على خلفية الانسحاب الأميركي الفردي من الاتفاقية النووية أمر طبيعي، خاصة وأن هذا الانسحاب تسبب في تشتت مواقف الدول الموقعة على الاتفاقية (5+1) في العام 2015 وبان اختلاف مصالح الموقعين على الموقف الأميركي.

لكن من الخطأ إذا اعتقدنا أن الملف النووي الإيراني هو الملف الوحيد على الساحة الإقليمية تتصارع عليه سياسات تلك الدول، وبالتالي نتجاهل بدون قصد بأن «الكل» دولياً يتنافس من أجل مصلحته في الملفات الأخرى في المنطقة التي ما زالت مفتوحة مثل ملف السلام والإرهاب، فهما أبرز ملفين حالياً في المنطقة.

الكل يعرف التنافس بين روسيا والولايات المتحدة من أجل بسط النفوذ في المنطقة، ويعرف أيضاً محاولات الرئيس ماكرون في إعادة فرنسا إلى الساحة الدولية من خلال الشرق الأوسط، فهي المنطقة التي تجيد السياسة الفرنسية اللعب فيها، لكن الذي يبدو غير واضح ذلك الاعتقاد بأن الصين ما زالت «زاهدة» في منطقة الشرق الأوسط إما اعتقاداً أن مصلحتها متوافقة مع السياسة الأميركية فالاثنتان هدفهما النفط، وإما لأنها لا تريد أن تزعج المتنافسين في المنطقة، لكن الزهد الصيني لم يعد مستمراً عندما أعلنت الولايات المتحدة عن رغبتها في الانسحاب من سوريا، حيث فتح شهية الصينيين للدخول إلى المنطقة التي تبدو أنها مهيأة لذلك الآن.

بالملاحظة فإن هناك إعادة صياغة للمنطقة من خلال القوى الدولية والإقليمية في ناحية شبكة الحلفاء والخصوم أيضاً، وإذا كان أغلب تلك الصياغة تصب ضد النظام الإيراني وحلفائه من التنظيمات الإرهابية، فإن إسرائيل اليوم تبدو أنها أحد اللاعبين الأساسيين في إعادة تشكيل هذه المنطقة، خاصة بعدما بدأ الدور التركي مهتماً أكثر بالوضع الداخلي والانشغال بالملف السوري، في مقابل تراجع واضح في الاهتمام بقضايا الإرهاب والتطرف في المنطقة التي تراجعت بعد إضعاف تنظيم داعش وحصار الدول التي تدعمه إعلامياً وسياسياً وتقدم له الأموال.

ومع أن فكرة تغيير «شرق أوسط» مطروحة منذ أيام الرئيس بوش الابن إلا أنها تراجعت مع الرئيس باراك أوباما، واليوم هي صحيح لم تعلن من جانب صناع القرار السياسي في العالم حتى الآن، ولكن حسب ما تطرحه السلوكيات السياسية للدول وكذلك الكتابات القادمة من مراكز الأبحاث العالمية التي غالباً ما تقدم المشورة لصناع السياسة هناك، بالإضافة إلى ما نراه على الأرض من ممارسات سياسية كلها مؤشرات تؤكد بأننا مقبلون على تغيير التركيبة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط بدخول لاعبين جدد، الصين التي لم يركز الكثيرون عليها بأنها قوة قادمة إلى المنطقة بعد إعلان الولايات المتحدة عن رغبتها في الانسحاب من سوريا.

مسألة إلغاء الاتفاقية النووية ليست فقط لأن الإدارة الأميركية الجديدة رافضة لمحاولات باراك أوباما في إدماج النظام الإيراني في المجتمع الدولي، باعتبارها الدولة المزعجة في المنطقة، وإنما تعود أيضاً إلى رغبة الرئيس دونالد ترامب في إلغاء كل الإنجازات الداخلية والخارجية التي قام بها أوباما، والدليل أنه ألغى قانون الضمان الصحي الذي توصلت إليه إدارة أوباما، بل إن أحد التفسيرات السياسية للتقارب مع الرئيس الكوري الشمالي ليس حباً فيه وليس من أجل عزل إيران دولياً، بل اختبار قوة الصين وردة فعلها في التنافس مع الولايات المتحدة وقدرتها على حماية مصالحها في المنطقة، حيث إن أكثر وارداتها من الطاقة تأتي من إيران تحديداً.

تنافس السياسة الدولية الجديدة دفعت بالصين إلى تبني استراتيجية تختلف عما هو متعارف عليه وفق الدبلوماسية الهادئة والقوة الاقتصادية الناعمة، وذلك من خلال الإعلان عن استعدادها بالمشاركة في ترتيبات المنطقة ولو تطلب الأمر التدخل العسكري لمساعدة النظام السوري.

النقطة المهمة أن منطقة الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة جديدة من التشكيل الكل يبحث فيها عن نصيبه، وبالتالي فإن الأولويات الاستراتيجية لن تبقى على حالها، بل إن منهج التعامل مع تلك القضايا التقليدية «النفوذ الإيراني» واستمرار القضية الفلسطينية سيكون التعامل معها بمنطق جديد، الأمر الذي يتطلب من العرب عدم التغيب عن تقرير مصير منطقتهم.

Email