قول في الخراب

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعرّف الخراب بأنه تدمير بعد عمران، فلا يكون خراب إن لم يكن عمران، ويعود خراب العمران إلى أسباب طبيعية لا يد لنا بها، أو بسبب فعل فاعل بشري، وهذا ما هو خطير على الحياة.

فخراب الجسد مثلاً يعود إلى موت الخلايا التي لا يستطيع الجسد أن يعوضها أو يجددها، فتكون الشيخوخة ذروة الخراب، والذي يقود إلى الموت، أو إلى أمراض تصيبنا وتعمل خراباً في أجسادنا. وما علم الطب وما يرتبط به من علوم مساعدة إلا علم ترميم الجسد إذا ما تعرّض لخراب ما. أي الحفاظ على الحياة في حالة الصحة.

وتخرب مدن وقرى بسبب عامل طبيعي كالزلزال والفيضان وما شابه ذلك. فيموت ما يموت من الخلق وتدمر البيوت ويهجر ما تبقى من الأحياء أماكنهم، ولهذا تجد عشرات القرى في بلاد العرب تبدأ أسماؤها بخربة كذا. والخربة هي القرية المهجورة.

قلنا إن خراباً كهذا لا يد لنا فيه، ولا يذم ولا يمدح، فلا ذنب للطبيعة اللاواعية التي لم تقصد تخريب العمران.

أما الخراب المقصود والذي يعود إلى إرادة البشر وأفعالهم فهو التدمير الحقيقي لحياة البشر الطبيعية والاجتماعية والأخلاقية وللدول بعامة والمجتمعات.

فالحروب بين الدول أو الحروب الأهلية أكثر الظواهر المخربة، فهي تقتل البشر، وتدمر العمران لوقت طويل. وليس التفصيل في هذا الأمر محموداً؛ لأنه واضح للجميع سواء في التاريخ أو الواقع الراهن.

غير أن أسوأ أنواع الخراب هو التخريب الذي تمارسه سلطة جاءت عن طريق الغلبة العسكرية أو الأمنية، وأقامت حكماً مستبداً متخلفاً في الوعي والممارسة احتفظت بسلطتها وتحتفظ بها عبر تخريب المجتمع والثقافة والقيم.

إن سلطة كهذه تصبح غاية في ذاتها لأصحابها، وتحملهم على توفير كل شروط القوة المادية للبقاء على وجودها حتى لو كلفها ذلك تدمير البلاد والعباد.

فأول سمة من سمات الحاكم الديكتاتور هو السلطة المطلقة وشعوره بأنه الحر الوحيد في الدولة.

سلوكان يعممان الخراب والدمار ويقضيان على العمران: الاعتداء على الحق، والاعتداء على كل القوانين الحافظة للحق وعلى الأعراف المرتبطة به.

والاعتداء على الحق يخلّف خلفه كل أشكال الخراب النفسي والمادي، أما الخراب النفسي فيكمن في تنامي الأحقاد على المعتدي وكبتها، حتى إذا ما تراخت قوة المستبد، وضعفت عصبيته التي يتكئ عليها انفجرت كالسيل العرمرم وأخذت في طريقها كل ما له علاقة بالعمران فيكون دمار ويكون خراب، وهذا ما نقصد بالخراب المادي، وهيهات لأحد أن يعرف المآلات والنهايات.

وإذا كان الخراب المادي قابل لإعادة البناء وترميم ما خرّب منه، فإن الخراب النفسي يكون طويل الأمد، ولا تُشفى منه النفوس إلا بعد أجيال وأجيال.

والأخطر من ذلك كله فإن الخراب النفسي - الروحي والخراب العقلي يجعلان البلدان والمجتمعات صيداً سهلاً وثميناً للدول الطامعة بالهيمنة والسيطرة، فلما كان الخراب عاماً فإن الضعف ينال كل صعد الحياة، وتفقد هذه المجتمعات القوة على مواجهة الغزاة، وليس هذا فحسب، فإن أخطر الأخطار ظهور فئات من داخل بلدان الخراب تصير جنداً عند الغزاة، فئات تصبح أداة طيّعة بيد الطامعين.

وهنا يكتمل الخراب المطلق، وتصبح البلاد غير قابلة للعيش لدى العدد الكبير من السكان فيتخذون قرار الهجرة والرحيل، وأول من يهاجر من الناس هم النخب التي لا تستطيع أن تكون جزءاً من أدوات الخراب والطغاة. تلك هي سيرة الخراب، بئس صُناع الخراب.

Email